رحموني يكتب: إصلاح أداة الإصلاح.. من أولويات معركة البناء الديمقراطي

13.12.26
خالد رحموني*
الحزب حين يكون موضوعا للإصلاح..


 ملحوظة: قبل البدء..
حديثي سيكون مجملا ملمحا، وليس عينيا مباشرا، هذا مقال إرشادي الوجهة، نقدي المضمون، يتعلق بمقاربة النسق الحزبي برمته كظاهرة، بعيدا عن تحيزه قربا أو بعدا من المواقع، سلطة كانت أو معارضة..

والآن إلى متن المقالة ومضمونها التفصيلي، الكلام فيه إجمال لا تخصيص..
لقد بات من البديهي والمعلوم أن هنالك ثقافة سياسية شائعة استشرت في العقل السياسي لبعض من النخب الفكرية، وتجذرت في أوساط شريحة واسعة من المجتمع المغربي تحمل معها تقييما سلبيا ومضمرا للعمل الحزبي المنظم، بل وتختزن بين ثناياها مفهوما منحطا غير ودي للعمل العام، يكثف في طياتها انطباعا سيئا ضد الحزب السياسي شكلا ومضمونا.
لاشك أن لهذه الثقافة السياسية السلبية عوامل مركبة ومسوغات معقدة أصلتها في الذاكرة الجمعية للناس ممارسات الأحزاب السياسية المغربية بخاصة ذات النزعة الاحتكارية للعمل الوطني، واستوطنت على مدى عقود من التجربة الميدانية المباشرة، سواء على صعيد وجودها في معمار السلطة، أو تحولها للعمل إلى صف المعارضة المؤسساتية.
 فضلا عن وجود بقايا وترسبات لنظرة تقليدية ما زالت ترى في مسألة إشاعة الثقافة السياسية الحزبية خروجا عن ثوابت الاجتماع الوطني والسنن الصحيحة إلى نوع من أنواع البدع السياسية الجديدة، كذلك يمكن إيراد تحكم الرؤية القبلية أو العشائرية أو اختزال الحزب في منطق الزوايا التي تصنف المؤسسة الحزبية كخطر يهدد وجودها أو نفوذها في الحياة العامة مثالا لتسويغ وتسويق حالة النفور عن فكرة الحزبية..

هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى في مقدمتها السلبية واللامبالاة الاجتماعية المستشرية في الأوساط العامة للناس، كل ذلك أدى في نهاية المطاف إلى إجبار قوى سياسية وتشكيلات اجتماعية عديدة على تجنب استعمال المنطق الحزبي بالذات في رسم خطوطها في مقاربة قضية الإصلاح السياسي العام للأوضاع، وجعلها تستنكف عن تكريس منهجها في التغيير السياسي والإصلاح الاجتماعي من خلال تبديل منطق اشتغالها، وذلك بالعمل على مراجعة عناوينها العامة في القرب من المجتمع، مما أبعدها عن مقاربة الإصلاح بناء على لافتتها الرسمية الأبرز.
 وهكذا فقد اختارت تلك التشكيلات مكرهة أن تطلق على نفسها أسماء من قبيل الحركة والمنظمة والتيار والجماعة …الخ، ظناً منها أن الأسماء المتقدمة قد تتجاوز عقدة الدلالة السلبية لمفهوم الحزب في الوعي الجماعي للناس، والتي أبت إلا أن تستوطن منطقة اللاشعور في سيكولوجية الجمهور المغربي على مدى عقود من جهة، وتوسع من دائرة الأفق الضيق الذي يكتنف معنى التحزب من جهة أخرى، وربما يكون البعض من تلك الأحزاب قد أفلح إلى حد بعيد في تمرير عملية التمويه هذه بشكل حقق- وما يزال يحقق – مكاسب تكتيكية على صعيد النظرة الواقعية المجردة، ولكن ليس على المدى الطويل بكل تأكيد.
وعلى أية حال فإن الأحزاب بصرف النظر عن تدثر وتخفي قسم منها بتعبيرات تغاير معنى الحزبية الصريحة إلا أنها تظل بأكثر تجلياتها تمثل إحدى الظواهر البارزة والعلامات الفارقة والايجابية في الحياة السياسية الديمقراطية، وأحد المعالم التنظيمية الأساسية للحداثة السياسية التي أنتجتها الخبرة البشرية في العالم المعاصر،سيما لدى الدول التي لا تعترف بنظام الحزب الواحد أو (الحزب الحاكم أو القائد..) وتعتمد مفهوم نظام الحزبين أو نظام تعدد الأحزاب وتجرى فيها انتخابات دورية على قدر محترم من حيث النزاهة والشفافية.

ولعل من العسير على الواحد منا أن يحدد مفهوما واضحا لا لبس فيه لماهية الحزب من حيث دلالته الاصطلاحية وحصر جميع عناصره الأساسية تحت إطار جامع مانع في ظل وجود اتجاهات عديدة أخذت على عاتقها مسؤولية البت النهائي في تحديد هذا المعنى الشائك على أسس طبقية أو إثنية أو دينية أو طائفية…الخ،
 فمما لا يخفى أن تفسير أصحاب كل اتجاه من الاتجاهات أنفة الذكر سيفضي إلى إلغاء تفاسير أصحاب الاتجاهات المغايرة، بل إنه سيلغي عمليا حتى تفسير الحزب الآخر الذي يسير معه في ذات الاتجاه ويفترض أن يتقاسم وإياه سائر القيم والمبادئ، لأنهما أي الحزبين الشقيقين أو المنشق أحدهما عن الأخر سيختلفان ببساطة شديدة من ناحية المصالح وتقديرها.
إذن لا غنى عن الاتكاء في هذه المرحلة على تعريف (هارولود لاسويل) الذي حدد مفهوم الحزب بكونه “تنظيم يقدم مرشحين باسمه من أجل خوض الانتخابات”، وهو بهذا المعنى مشروع سلطة يحمل برنامجا محددا يشرح من خلاله متبنياته في الفكر والاقتصاد والسياسة والاجتماع تجاه قضايا مجتمعه المصيرية سواء تمكن من تحقيق مشروع الفوز بالسلطة أو جزء منها فعلا في ما مضى من انتخابات. أو ما يزال يسعى إلى تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي في جولة أو معركة انتخابية مقبلة. وسواء أكان يعمل منفردا أو متحدا بشكل أو بآخر مع أحزاب أخرى، وسواء سقط من اعتبار جمهوره أو ما زال على قيد الاعتبار الشعبي والرمزي لدى قطاعات واسعة منه.

وبقدر ما يتعلق الأمر في مغرب ما بعد عام 2011 فإن مبدأ تعدد الأحزاب أصبح أمرا ثابتا ومحسوما ومعطى واقعا في الحياة السياسية، وقد نصت الدساتير المغربية المتعاقبة على أن حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية أو الانضمام إليها مكفولة وينظم ذلك بقانون، مما يعني أنه لا يجوز إجبار أي أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها.
مما دعا ويدعو بإلحاح إلى ضرورة التعجيل بتبني إستراتيجية جدية وإرادية لتطوير العمل السياسي الحزبي ترتكز على مفاهيم وقواعد الديمقراطية الحقة، المؤسسة لثقافة التعاقد والالتزام النضالي الطوعي.
وقد يكون من جملة أسباب إطلاق دعوة إصلاحية من هذا القبيل ما يتعلق بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق النخب السياسية والفكرية في هذه المرحلة، تتمثل في العمل على تدارك الفشل الحاصل في التجربة الحزبية بخصوص تطورات القضية الديمقراطية والإصلاحية في الوضع السياسي الراهن للبلاد أو في بعض مفاصلها الأساسية على أقل تقدير، ذلك أن الاستمرار في هذا الفشل المزمن للنسق الحزبي برمته قد يفتح الباب على مصراعيه مجددا أمام وصول قوى سياسية محافظة وسلطوية إلى إدارة وتدبير الحكم من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأحزاب السياسية إذا ما تشكلت على أسس حديثة ستؤسس لحياة سياسية مفتوحة وسليمة، ستؤدي -بحسب التجربة الإنسانية المشاهدة في الدول الأكثر حداثة سياسية وانفتاحا ديمقراطيا- إلى منافع اجتماعية كثيرة  ذات بعدين:

 1-أما البعد الأول:
تعزيز فعالية النسق الحزبي، وتحفيزه للقيام بوظائفه في الاقتراح وصياغة البدائل
فيمكن رصده من خلال ملاحظة انعكاسات تجربة الحزب أي حزب النضالية والميدانية على المجتمع  والدولة، وهذه يمكن إجمال عناصرها الايجابية بالآتي:
– ممارسة الحزب لدور الوسيط الحيوي، أو همزة الوصل بين الرأي العام ومركز الحكم، ومراقبة أعمال السلطة السياسية والتنفيذية منها بالخصوص، وذلك بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، مع ملاحظة أن الأحزاب والهيئات السياسية أقدر على تحقيق الغايات المذكورة نظرا لحداثة وضعف تجربة المجتمع المدني في المغرب المعاصر وتحول قسم كبير منها للأسف-رهبة أو رغبة- إلى واجهات سياسية بأسماء مدنية مستعارة.

– تحويل مطالب الجماهير إلى واقع عملي، نظرا لقدرة الأحزاب على تحشيد التأييد والدعم المطلوبين لتحقيق مصالح المجتمع أو فئة منه على الأقل، وبالتالي التحقق بدلالة مفهوم السيادة الشعبية إلى حد بعيد وتوطينه في المعمار السياسي لتجربتنا الديمقراطية الوليدة، ودعم المشاركة السياسية للعامة في تدبير دواليب الحكم، والإسهام في إنتاج القرار السياسي وتحصين قدرة الجمهور في الرقابة على موارد السلطة.
– إثراء الحياة السياسية وعدم السماح باحتكار السلطة من قبل البعض من المواطنين دون البعض الأخر، طالما أن الجميع –في دولة المواطنة والمجتمع الديمقراطي المشارك-يملك القدرة على الانتساب للكيانات السياسية أو الترشح لتولي المناصب العامة تحت راية حزب أو كيان سياسي ما.

– للأحزاب بما تمتلكه من نفوذ وتجذر وما تحوزه من وسائل إعلام أو إقناع، لها أعمق الأثر في بلورة رؤية واضحة المعالم حول المجتمع والسياسة والاقتصاد، يستفيد منها المواطن بشكل عام في موارد المقارنة ومعرفة الخطأ والصواب واختيار البديل الأنسب من بين خيارات وبدائل عديدة. أما حين تتحيز الأحزاب في مواقع المعارضة السياسية وتتمترس في خلفية الرقيب على أعمال السلطة السياسية، فإنها حينئذ تتحول للقيام بدور المعارضة والنهوض بوظيفة الحفز والتنبيه والاعتراض وإثارة جوانب النقص نقديا واقتراحيا من خلال موقعها الجديد، فتساهم بشكل فعلي وفعال في الاضطلاع للقيام بمهام المراقبة والمحاسبة والضغط على القوى السياسية والأحزاب الموجودة في سدة الحكم، حيث تتحول قوى المعارضة السياسية إلى إطار منافس يطرح مشروعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بديلا، يحرج القائمين على تدبير دفة القرار السياسي ويجبر مكونات وأحزاب السلطة على القيام بدور فعال لتحقيق طموحات الشعب، وإلا تجبر على التنحي في دولة ديمقراطية وبإعمال لأدوات دستورية معلومة يتوازن بها الشأن السياسي العام، وهذا معناه أن الديمقراطية وحدها هي التي تصحح أخطاءها.
 – تشخيص وتحديد القضايا والحاجات الأكثر مساسا بحياة الناس والمجتمع، وذلك من خلال إثارة وعي الرأي العام وانتباه الجمهور إلى المشكلات وفضح وتعرية العيوب وأوجه الفساد في البلاد ومقاربة الحلول وممكنات الخروج من المآزق، وبخاصة في مواسم الحملات الانتخابية وما بعدها.

– ممارسة الأحزاب لعملية تنظيم اجتماعية مكثفة، من خلال السعي إلى كسب أكبر جمهور ممكن، وبذلك فإن الأحزاب بموقفها هذا تساهم في القضاء على الموقف السلبي أو الانعزالي لقسم كبير من أفراد الشعب، وتجاوز معضلة العزوف السياسي المستشرية في الديمقراطيات الهشة كنموذجنا العليل.
– مشاركة الأحزاب السياسية في العمل السياسي خصوصا في عملية التجنيد للمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، مما يضفي لمسة جدية على العملية السياسية برمتها ويبني الشرعية السياسية للدولة من خلال تعميق مشاركة الناس في السلطة، مما يجبر الخاسر في العملية الانتخابية على الانصياع إلى إرادة الناس وبالتالي تزيد من تلاحم أركان الدولة وتمنع حدوث انفجارات سياسية.

2-أما البعد الثاني:
 تعميق الديمقراطية الداخلية، وبناء الكيان المستقل المالك للقرار السيادي..
ذو صلة بتعميق الديمقراطية الداخلية للفاعل الحزبي بغض النظر عن موقعه من السلطة سواء كان في المعارضة أو في التدبير وقيادة السلطة التنفيذية وحيازة موارد السلطة، وما تعنيه هذه الإدارة الذاتية من تكريس للثقافة السياسية المبنية على المشاركة وبناء الذات بعيدا عن منطق النفوذ وما تعنيه أيضا من تعزيز استقلالية الفاعل الحزبي والسياسي نفسه عن مراكز الهيمنة والتوجيه السلطوية ومواقع الحكم المتحصنة بالقهر السياسي، فهذا البعد الديمقراطي في بناء الذات الحزبية واكتفائها بمقدراتها الكيانية ومواردها الخاصة، يعد أمرا ضروريا وحاسما لاستكمال الحداثة السياسية التي تعني التمايز بين المؤسسات السياسية والتوازن بينها والاعتماد المتبادل بين مكوناتها، وأيضا هو ضروري لإتمام دورة المنافع الاجتماعية وإيصالها إلى غاياتها الرشيدة المرجوة في الإصلاح العام والتمثيل الجيد للفئات التي يتحدث باسمها الحزب حقيقة والطبقات التي ينحدر منها ويعبر عن مصالحها وآمالها ومطامحها.
ويمكن تجسيد هذا الأفق في القدرة على إعادة صياغة فكرة الحزب السياسي بالنسبة إلى أتباعه ومريديه ومناضليه على أسس ومبادئ مدنية حديثة تعاقدية بالضرورة، ويأتي على رأس أولويات مشروع تلك الصياغة الشاملة للحياة الحزبية السليمة اعتماد آلية الانتخابات الحقيقية الدورية الشفافة والنزيهة، هذه الانتخابات التي لم يكن لها في تاريخ الحركة الحزبية المغربية إلى حدود بداية القرن الحادي والعشرين وجود فعلي أو حضور جدي يمكن الاستدلال عليه فضلا عن الاستشهاد به  فيما يخص الديمقراطية الداخلية للقوى الحزبية المغربية على وجه الإجمال، بغض النظر عن خداع الصورة الظاهرة والبراقة.

 فقد جرت العادة في سلوك تلك الأحزاب أن يكون الزعيم أو الأمين العام أو الرئيس قدرا مقدورا لهرم السلطة في الحزب ما بقي على قيد الحياة إلى أن يطاح به نتيجة لتغيير في توازنات القوى الداخلية أو الخارجية، وهنا يمكن توقع حالة من حالات الانشقاق إن عاجلا أو آجلا، ذلك أن صياغة أنظمة الأحزاب الداخلية  في بلدان العالم الثالث ومنها المغرب غالبا ما كانت تستوحي إن لم تكن تحاكي نظام الحزب الوحيد الحاكم، الأمر الذي يوفر بيئة خصبة لاحتضان الزعيم الأبدي حتى الموت أو إعادة إنتاجه من جديد. 
إن السؤال الديمقراطي العام، أي دمقرطة الدولة والنسق السياسي المركزي للسلطة، يستلزم ضرورة دمقرطة المجتمع وفي القلب منه قواه الحزبية والسياسية، فلا معنى للمطالبة الديمقراطية والشعار الديمقراطي إن لم يتمثله النسق الحزبي برمته، وإن لم يكن له انعكاس عل الحياة الداخلية لتلك الأحزاب ذاتها المطالبة بالإصلاح. إن المطلوب اليوم أن تتحول أدوات الإصلاح إلى موضع للإصلاح ذاته، تلك هي المعركة في المرحلة.
*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس قسم التأطير الخارجي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.