الساسي يكتب: العلمانيون المغاربة والالتزام بالديمقراطية

14.01.23
نشرت يومية المساء في عدد الخميس 23 يناير 2014 مقالا للكاتب محمد الساسي بعنوان: العلمانيون المغاربة والالتزام بالديمقراطية، هذا نصه:
 
نقصد بالعلمانيين المغاربة مختلفَ الهيئات والشخصيات والتيارات التي تمارس وجها من أوجه النضال السياسي الهادف إلى تحقيق تغيير شامل في البلاد، والتي لا تقدم نفسها، عادة، كحساسية إسلامية، ولا تعتبر نضالها جزءا من مشروع إسلامي «عابر للقارات». يعتقد الكثير من أولئك العلمانيين أن الدعوة إلى تقديم الدليل على الالتزام بالديمقراطية يجب أن تتوجه إلى الإسلاميين وليس إلى غيرهم، وأن الصف العلماني غير معني، أصلا، بمثل هذه الدعوة، لأن احترامَه للديمقراطية وتقيُّدَه بقواعدها وأصولها أمرٌ محسوم فيه ولا يرقى إليه الشك، أبدا، ولا يحتاج إلى إثبات، وأن العلمانيين عقدوا قرانا كاثوليكيا مع الديمقراطية، لا يُتَصَوَّرُ أن تنفك آصرته بطلاق، ومئات السنوات من السجون والمنافي والإعدامات التي تكبدها اليسار العلماني من أجل الديمقراطية تجعله معفيا من واجب إثبات التزامه بها، وعلى الإسلاميين، وحدهم، أن يثبتوا، في كل وقت وحين، أنهم لا يناصبون الديمقراطية العداء ولا يضمرون لها شرا، وأن يعطوا ما يكفي من الضمانات والحجج على تشبثهم بالديمقراطية وتشبعهم بها، فُيطلب منهم:

– أن يثبتوا أنهم لا يستخدمون الديمقراطية بغاية الوصول إلى السلطة ثم الانقلاب عليها، ورفض الانضباط إلى ما يترتب عنها من واجبات، واضطهاد معارضيهم ومنعهم من التطلع إلى تناوب سلمي بواسطة صناديق الاقتراع نفسها (نظرية سحب السلم)؛

– أن يثبتوا أنهم لا يختزلون الديمقراطية في الانتخابات فقط، ولا يتنكرون للعلاقة الوثيقة القائمة بين شق الحريات وشق السيادة الشعبية وشق تنظيم السلط، ولا ينوون الاحتجاج بإرادة الشعب لاحتجاز الحريات وقمع الرأي الآخر والتضييق على المنافسين ورفض إجراء التوافق المطلوب في المراحل الانتقالية؛

– أن يتجنبوا إضفاءَ القداسة على بعض بنود برنامجهم واعتبارها جزءا من كلام الله الذي لا يقبل الجدل، وتكفيرَ كل من ينطلق في برنامجه من مقتضيات وحلول مخالفة، واعتباره مذنبا وعميلا لقوى تستهدف هوية الأمة الدينية ومتطاولا على الذات الإلهية.
أما العلمانيون، فيعتبرون أنفسهم ديمقراطيين مثاليين، لم تعد لهم أية مشكلة مع الديمقراطية، بعد أن ارتضوها منهجا ثابتا لهم لا يحيدون عنه، وأنهم يجب أن يعطوا الدروس لغيرهم، وأن يفتوا في كل ما يتصل بأمور الحلال والحرام من الوجهة الديمقراطية كما يفتي الإسلاميون في أمور الحلال والحرام من الوجهة الدينية. والواقع أن على العلمانيين، أيضا، أن يبذلوا المزيد من المجهودات الرامية إلى تأكيد تشربهم واحترامهم للمبادئ الديمقراطية وتعلقهم بها واستعدادهم للذود عنها، في كل الظروف، والإخلاص لها، سواء كانوا أغلبية أو أقلية، وسواء كانوا في الحكم أو في المعارضة. وتتمثل تلك المجهودات، مثلا، حسب رأينا، في:

– الإقلاع عن عادة التساهل مع الاستبداد إذا كان الإسلاميون هم ضحاياه المباشرون، كأن يعمد العلمانيون إلى تجاهل بعض أوجه الخرق التي تطال حقوق الإسلاميين، أو إلى إبداء قدر من الاحتشام في التنديد بها وتجنب القيام بأشكال التضامن الحيوية والفعالة التي يتطلبها الموقف. يجب ألا نصل، في المغرب، إلى الحالة التي يصبح فيها كل طرف سياسي مضطرا، وحده، إلى تدبر أمر الدفاع عن حقوق أعضائه، بطرقه الخاصة ودون أية مساهمة من الفرق السياسية الأخرى؛

– تقبل جميع النتائج التي تسفر عنها الانتخابات والتعامل معها بروح رياضية واحترام إرادة الناخبين الذين صوتوا لصالح الإسلاميين، وعدم عرقلة تطبيق هؤلاء لبرنامجهم، ورفض المساهمة في خطة حرمان مُنْتَخَبِيهم من وسائل ممارسة السلطات المخولة لهم قانونا؛

– مقاومة الرغبة في محاربة الإسلاميين باستعمال ورقة الدفاع عن الملكية وبمحاولة دفع هذه الأخيرة إلى التدخل لحسم الصراع لصالح خصوم الإسلاميين، نيابة عن هؤلاء الخصوم، واعتمادا على وسائل بديلة عن حكم صناديق الاقتراع؛ مع الإشارة إلى أن الإسلاميين، أنفسهم، لا يترددون في السعي إلى إقناع الملكية بصواب اختيار التحالف معهم باعتبارهم الأقدر على خدمة مصالحها وتأمين الدفاع عن قوة نفوذها ولو باستمرار ذات الممارسات العتيقة التي تتعارض مع اختيار التغيير؛

– تجنب الغلو في مواجهة ظاهرة وصول الإسلاميين إلى مواقع المسؤولية العمومية باستخراج شعار التوافق، في كل وقت وحين، وبالنسبة إلى كل القضايا، وبالشكل الذي يجعل منه أداة لتمكين العلمانيين من تحصيل المنافع التي لم يستطيعوا تحصيلها بواسطة صناديق الاقتراع ولمنع الإسلاميين من جني ثمار انتصاراتهم الانتخابية. التوافق، طبعا، ضروري، في مرحلة الانتقال، لتثبيت مرتكزات الحياة المؤسسية لوضع ما بعد الانتقال؛ ولكن التوافق لا يعني، في الوقت ذاته، تجريد النتائج الانتخابية من أية قيمة وتخويل المعارضة حق الممارسة الفعلية للحكم بطريقة غير مباشرة؛

– الامتناع عن رفع الشعارات التي قد تنطوي على نوع من الطلب على الاستبداد، والتي تكون الغاية منها هي الحيلولة دون حصول انفتاح أو تقدم ديمقراطي يمكن أن يستفيد منه الإسلاميون وتأجيله إلى مواعيد لاحقة، تكون ملائمة للعلمانيين وتفتح لهم إمكان الاستفادة منه بدرجة أكبر. لم يجد كثير من الحداثيين حرجا في إعلان تشبثهم بالفصل 19 من الدستور القديم والمطالبة بالإبقاء عليه، حتى يمثل حاجزا لمواجهة تزايد النفوذ الإسلامي، وحتى تظل القرارات الأساسية مُحَصَّنَةً ضد أي تأثير أو تدخل إسلاميين؛

– التوقف عن استعمال وصف (الظلامية) كأداة اصطلاحية غير منصفة للحكم المطلق، دفعة واحدة، على كل الحركة الإسلامية بمختلف تلاوينها واتجاهاتها، وتبرير استعمال جميع الوسائل في مواجهتها، مع تجاهل أي تطور أو مجهود قد تبذله على طريق تجديد خطاباتها وممارساتها. لقد سبق للحركة الإسلامية أن بلغت، في ممارستها للعنف ضد خصومها في الجامعة، درجة لم يسبق أن بلغها أي طرف آخر. ومع ذلك، يتعين الاعتراف، بالمقابل، أن الانتماء الإسلامي كان يحرم صاحبه، في مرحلة من المراحل، من حق إبداء الرأي والمشاركة في الحياة النقابية والثقافية الطلابية، وكان هناك تضييق شديد على حرية تحرك الإسلاميين وإقرار، من طرف بعض الفصائل اليسارية، علنا، بتبنيها خطط تطهير الجامعة من الظلاميين. طبعا، لم تكن تلك الفصائل تدرك أن الإسلاميين سيكتسبون، في ما بعد، كل القوة التي اكتسبوها. رواسب هذا التفكير الاستئصالي لازالت قائمة، اليوم، والبعض يعتبر أن اختيار الحداثة يملي عليه واجب محاربة الإسلاميين، فقط، باسم محاربة الأصولية، والحال أنه يعلم بأن مساحات الثقافة الأصولية تتعدى حقل الإسلام السياسي، من جهة، وأن الهدف الفعلي من محاربة الإسلاميين هو التخلص، بكل بساطة، من منافسين أقوياء. عدد غير يسير من العلمانيين يتصور أن الإسلام السياسي لن يعرف أي تقدم في الفكر أو الممارسة، حسب المعايير الديمقراطية. ومع الاعتراف بصعوبة حصول مثل هذا التقدم، فإن حالتي حزب الأمة والبديل الحضاري، مثلا، تثبتان، مع ذلك، أنه ممكن، حتى وإن جرى ببطء شديد أحيانا، وأن مقولة (ليس في القنافذ أملس)، التي يُقصد بها مجموع الحركات الإسلامية، تجانب الصواب؛

– التراجع عن موقف تحريم العلمانيين، على الإسلاميين، ما يحللونه لأنفسهم، مثل التقدير العلماني بأن انخراط حزب مغربي، في تجمع إسلامي عالمي، يشكل تهديدا بإخضاع الساحة المغربية لتأثير خطط خارجية، بينما الأحزاب العلمانية المغربية تشارك مع نظيراتها الأجنبية في تجمعات حزبية عالمية؛

– التخلي عن الموقف المبدئي والمنهجي الشامل، الصادر عن بعض القوى العلمانية، والقاضي برفض أي شكل من أشكال الحوار مع إسلاميين يقبلون، علنا، بالاحتكام إلى الديمقراطية ونبذ العنف والتكفير، بينما الحوار لا يعني التحالف، بل هو مجرد خطوة في اتجاه تبادل الاعتراف واستكشاف إمكان العمل المستقبلي المشترك من عدمه؛

– الحرص على إخضاع سير البنيات التنظيمية العلمانية لقواعد الديمقراطية الداخلية ومعالجة مختلف الاختلالات والأعطاب التي يعاني منها هذا السير، مما سيمكن، ربما، من تجاوز المفارقة التي تجعل العلمانيين المغاربة يطالبون الإسلاميين بإثبات الامتثال لقواعد الديمقراطية بينما الحزب الإسلامي، المشارك في المؤسسات، يتفوق على أغلب الأحزاب المغربية من حيث منسوب الأخذ بآليات التدبير الديمقراطي التقني والحكامة الجيدة؛

– التخلي عن التردد، الذي يبديه العلمانيون أحيانا، في الأخذ ببعض الحلول الإسلامية التي تحقق لهم أهدافهم وتجعلهم يدركون مقاصدهم، لمجرد أن هذه الحلول تحمل عنوانا مستقى من القاموس الإسلامي. يمكن أن نجد في الإسلام، من خلال القراءة التنويرية المجددة، سندا لكل ما يُطالب به العلمانيون، تقريبا، من حرية للمعتقد وحماية الاختيارات الشخصية الممارسة في إطار حميمي خاص، بدون مجاهرة أو إيذاء لحقوق الغير، ومدنية للدولة وديمقراطية حقة وحداثة ومساواة بين الرجل والمرأة. أليس من الأجدى أن يطالب العلمانيون باستلهام نموذج التوافق الحاصل حول مدونة الأسرة لصياغة ميثاق مشترك حول أسس الانتقال الديمقراطي المغربي؟

– رفض التأويل الذي يحول قاعدة (لا ديمقراطية لغير الديمقراطيين) إلى حكم على النوايا، وتعسف في حق الجماعات والأفراد، وإقصاء متعمد للإسلاميين الذين يعلنون التزامهم بقواعد الديمقراطية؛

– منح مهمة التجديد والإصلاح الدينيين مكانة مركزية في برنامج العلمانيين، انطلاقا من الوعي بأهمية الدور الذي لعبه إنجاز هذه المهمة، في عبور أوربا إلى ضفة الحداثة والحرية والديمقراطية؛

– قبول الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها العلمانيون في حق الآخرين، سابقا، وأنواع الممارسات غير الديمقراطية وغير المتسامحة التي تعرض إليها الإسلاميون، وركوب سبيل مجادلتهم بالحسنى، وتجنب استفزازهم المجاني، وتفهم بعض تخوفاتهم المشروعة، واعتبارهم شريكا ضروريا في معركة كسب رهان الانتقال.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.