نور الدين مفتاح يكتب : لا لـ “ولكــن”

نور الدين مفتاح*

26-01-14

نعم لحرية التعبير، ونعم للنقاش الساخن حول جميع القضايا المجتمعية حتى الأكثر حساسية ضمنها، ولكن، هل يمكن أن يكون هناك نقاش مقبول وسيلته العنف؟ العنف الوحيد المقبول هو العنف المشروع وبضوابط قانونية. أي أن الاعتداء على حرية الناس أو تهديد حياتهم أو سلامتهم يستوجب عنفاً من طرف الدولة في إطار الضمانات القانونية. أما أن نرى اليوم في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض التعاليق أننا «نشجب ولكن»، وعندما يتحول العنف إلى موقف سياسي، فهذا منزلق خطير يتطلب دق ناقوس الخطر.

ما تعرض له الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله حين فتح أحد الغاضبين جبهته بحجر، مما تطلب رتق الجرح بسبع غرز، أمر مدان مائة بالمائة ولا يحتاج إلى و«لكن». وإذا ما جاءت هذه الـ «ولكن» بعد الإدانة، فإنها إدانة لصاحبها لأنه يبرر العنف، وتبرير العنف هو بداية المنزلق إلى الفوضى وإلى الهمجية وإلى اللااستقرار.

هناك حرية التعبير، نعم، وهي حق مقدس، ولكن ليست هناك حرية القذف والسب والشتم، هذا ما كنا نقوله في قضايا دقيقة، الحسم فيها صعب حين تناول الشأن العام، بين ما هو نقد وما هو قذف، وما هو شأن خاص وما هو شأن عام، أما العنف، فلا دقة فيه ولا تلوينات ولا صعوبة، إنه أبلق مكشوف، إنه جريمة تقر فيها جميع القوانين العقوبة، وبالتالي فإن أي غفلة، لأسباب سياسية أو عقدية أو اجتماعية، تسوغ العنف كتعبير عن موقف هي مغامرة غير محسوبة العواقب، ولهذا فإن ما كانت تضمره سطور التشفي حينا حول ما جرى، وإيجاد المسوغات أحيانا أخرى لأسلوب حوار «حجري»، هو تمهيد للطريق نحو حرب أهلية إذا سخنا بنادير العنف وتحلقنا حول النار نرقص فرحا بجرح الخصوم!

عندما يتعلق الأمر في المغرب بالتكفير أو هدر الدم أو الدعوة للعنف، تتحرك الكريات البيضاء للمجتمع متصدية لكلمات قد تتحول إلى رصاص قاتل، أما عندما تتحول الكلمات إلى حجر كسلاح، فإن المجتمع يجب أن ينتفض بشكل مضاعف، ليس من أجل الضحية، ولكن من أجل المبدأ، ومن أجل القيم التي تجعلنا متساكنين خاضعين لسلطة القانون، وهي قيم الاحترام، والاختلاف الحضاري، والتعبير السلمي عن الآراء، والتغيير عن طريق المؤسسات أو المجتمع المدني، والمعارضة للسياسات بالسياسات والتكتلات والعمل الميداني والاحتجاج السلمي، هذه هي القواعد الوحيدة التي تمكننا من الاستمرار في إطار التعايش كشعب واحد داخل وطن واحد وإلا فستكون فوضى.

ولنرسم سيناريو ما يمكن أن يقع إذا بررنا ما جرى لنبيل بنعبد الله بآسا، فالذي كان يملك ذراعا قويا وحجرا رمى به وزير السكنى سيكون هناك من يخالفه الرأي وله بدل الحجر سيف وآخر له قنينات ماء حارق وثالث له قنابل مولوتوف تقليدية، وحينها سيصبح من هو مع حكومة ابن كيران في زاوية الشارع، ومن هو ضدها في زاوية مقابلة ومن ليس معهما في الوسط، وسيختلط الحابل بالنابل، وسيترك الناس البرلمان والمجالس المنتخبة تهدر الكلمات لتصبح لغة الفعل هي العنف والدماء والدموع.

إن النظام الذي أنتج لمدة عقود الفوارق الاجتماعية والإقصاء والحيف في توزيع الثروات لا يمكن تغييره هكذا عن طريق ضرب بعض رموز الدولة، فقد جرب المغاربة لسنوات التغيير عن طريق العنف الثوري، ولكن النتيجة لم تكن إلا مزيدا من تعميق الفوارق ومزيدا من المعاناة والآهات المنتشرة عبر خريطة الوطن. والوصفة المغربية الحالية، وهي على كل حال امتداد للتناوب التوافقي الأول مع الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي، ليست هي الوصفة المثالية، وكانت مليئة بالثقوب أكثر من الجبنة السويسرية، ونتائجها يمكن أن تملأ آلاف الصفحات بنواقصها، ولكن عموما ظلت هذه التجربة في حدود المغرب الممكن، وفي حدود موازين القوى، وفي حدود ما يتيحه الصراع المرير بين نوازع الإصلاح والمقاومات الشرسة، فهل بحجر وجرح على جبين وزير يمكن أن تتغير الأوضاع في الرباط لتصل إلى المهمشين في آسا الزاك؟! أبدا، بل إن العنف لا يمكن إلا أن يكون ذريعة في يد المفسدين والحرس القديم للمزيد من التضييق على المغلوبين على أمرهم والمزيد من عزل الحاكمين عن المحكومين بدعاوى الأمن.

كل ما جرى من عنف مدان بلا شرط سواء لوزير الصحة الوردي، أو لرئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران حين حوصر وشتم في شتنبر الماضي، أو حتى للمقرئ أبو زيد الذي وإن كان قد قال نكتة بليدة في حق الأمازيغ فهذا لا يعطي الحق للغاضبين في الهجوم عليه وتعنيفه وتهديد أسرته.

نحن شعب لنا الكثير من النواقص وربما «العاهات» المجتمعية، ولكن لنا ميزات، وعلى رأسها التضامن العائلي الصرف واحترام الأسرة ونصرة من نختلف معهم في الحق، وهو ما جرى مثلا حين كان بعض شيوخ السلفية معتقلين ودافع عنهم الحقوقيون الحداثيون والليبراليون والاشتراكيون، وهذه هي البذرات التي يجب أن تتنمى لتكتسح الفضاء العام، لا العنف مقابل الاختلاف.

لن تتغير وضعية العاطلين ولا الفقراء ولا المعوزين ولا المحرومين بضرب أعضاء الحكومة، بل ستتغير بضرب الجهل في العقول والتعبئة من أجل تغيير موازين القوى وكشف المفسدين المدثرين في لبوس الأتقياء الصالحين، هذه هي الطريق الوحيدة السالكة اليوم نحو الأمل، وما عداها فهو تعميق لحفرة اليأس، وأخطر الأمراض القاتلة هو عدم الثقة في المستقبل.
*مدير نشر أسبوعية “الأيام”. افتتاحية عدد 602، 23-29 يناير 2014.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.