رحموني يكتب: المعارضة وافتقاد التوازن السياسي أو لغة الضجيج والإثارة

14.01.31
خالد رحموني*
أتابع باستمرار، كما غيري من المواطنين والمهتمين، أطوار الجلسة الشهرية للسيد رئيس الحكومة، والتي أضحت علامة فارقة في بلورة وتطوير خطاب سياسي مبني على الوضوح والتبسيط، في مرحلة تميزت في عمومها بتصاعد شدة الطلب على السياسة والعمل العام. وقد ساهمت، إلى جانب غيرها من العوامل والمؤثرات الأخرى، في شد انتباه عديد من الناس إليها، بحيث يمكن الاطمئنان إلى أن الخطابات المتلفزة تلك ساهمت بشكل كبير في إحداث تصالح جزء من المواطنين مع السياسة، مما ساهم في البروز شبه المنتظم والتواصل السلس غير المسبوق للسيد ابن كيران في إعطاء نكهة خاصة وفريدة للخطاب السياسي العام الذي يمارسه القادة والزعماء السياسيون في علاقتهم مع الجمهور والمؤسسات والنخب، الشيء الذي ساهم في تكسير الصورة النمطية للمسؤولين العموميين والقادة السياسيين باختزالهم في منطق الحديث بالمرموز وبالكلام الملغز غير المفهوم والمتعالي.
وهذا ما زاد من فك العزلة عن قارة السياسة وعن الكائنات السياسية التي تدمن صوغ خطابات غرائبية غير مبيئة، ولا هي في متناول الناس بعامة، وذلك بحكم الأداء المتميز للسيد عبد الإله ابن كيران، والخطاب الفريد والقريب من محكيات الناس وأفهامهم، والذي يمارسه في التواصل السياسي.
 وربما يكون ذلك النجاح المنقطع النظير لذلك التمرين الديمقراطي العادي جزء من الحملة المنظمة التي أدمنها البعض، مستهدفا شخص السيد ابن كيران، وما يرمز إليه ومن ورائه حكومة الانتقال السياسي التي تباشر الإصلاحات بمنطق يتسم بالشجاعة في الموقف، والمسؤولية الوطنية العالية، رغم ما يمكن أن نسجله وسجلناه من استدراكات نقدية وملاحظات، فأنا هنا لا أتحدث عن النقاش الموضوعي والنقد السياسي المنبعث عن القوى السياسية الوطنية والنخب الفكرية وعموم الجمهور.
من جهة أخرى، وعلى النقيض مما سبق، أصبح الرأي العام يتعذب أسبوعيا بمجريات جلسات عمومية باتت رتيبة مكرورة مسرحها البرلمان بغرفتيه، وبالأساس مجلس المستشارين المنتسب لزمن سياسي سحيق، لا يواكب الانتقال السياسي والدستوري الجاري في البلد لمغرب ما بعد 20 فبراير، وخطاب 9مارس ودستور 1 يوليوز وانتخابات 25 نونبر 2011 وحكومة ابن كيران الأولى والثانية.
 جلسات أرادها البعض من الطبقة السياسية، خصوصا جزء من المعارضة المؤسساتية، أن تكون نموذجا لما تتصوره رقابة ومعارضة مجازية في طبيعتها، وقد قال عنها البعض في توصيفها بكونها صدامية. لكن لمكر التاريخ غدت عنوانا لكيل الاتهامات وحبك الشتائم بلا ضابط لا أخلاقي ولا قانوني، حتى صار عنوانها العام لدى الرأي العام انحطاط في القيم لحظة المبادرة لمباشرة العمل التمثيلي العام، والرقابي منه بخاصة.
 وقد ساهم الحضور الباهت لتلك المعارضة إلى حد بعيد في تدهور الصورة الاعتبارية للرمزية المؤسساتية لبعد من أبعاد الديمقراطية التمثيلية مجسدة في مؤسساتها التشريعية، من خلال سلوك أساليب طافحة بالخبت والمكر والسقوط باتت مكرورة ومستنكرة من قبل قطاعات عريضة من الرأي العام، وهو يراقب الأداء الواطئ لجزء من نخبته السياسية، ومآلات أداء عديد من نواب الأمة غير المشرف لهم وللغرفة التي قرروا أن يستوطنوها، وانتسبوا إليها ضدا على الأعراف الدستورية، وبعضهم الآخر يؤشر على مرحلة سابقة على الربيع العربي، وهو بصراخه وصياحه يؤشر على إيقاع غير إيقاع المرحلة الحالية التي عنوانها التغيير والإصلاح والانتقال.
لقد خلقت تجربة الإصلاح السياسي التي انخرطت فيها البلاد منذ ما يقارب من السنتين، وفي ظل سياق متقلب عربي ودولي، حالة انبعاث وطنية رائعة من الترقب والمشاركة والتطلع للإسهام في النهوض الوطني مرفوقة بالتوجس خيفة من مآل الإصلاحات، وقد تجسدت تلك المشاعر الدافقة في ما خلفته الآمال العراض المنبسطة بين جموع المواطنين على اختلافهم بدرجة أو أخرى، حالة تجسدت في حراك وطني إيجابي يسعى فيه المواطنون إلى ما يوحدهم في مواجهة الفساد، وتدهور أحوال الوطن والأحوال المعيشية للمواطنين بعامة.
ولكن مع أول خطوة من خطوات خارطة الطريق لبناء البلد، ارتد كثير من الناس من مكونات المشهد السياسي إلى ولاءاتهم الأولى، وأعادوا بناء تحالفاتهم على أساس المصلحة الضيقة والآنية متسلحين بالتعصب الحزبي الأعمى والنرجسية القاتلة، ومن خلال عراك صريح ومتناقض أديرت عمليات منهجية للتنكر للإصلاحات الأساسية التي عجزت النخبة التدبيرية بالأمس، والتي تتصدرها المعارضة اليوم، لحظة كانت تدير دفة القرار العمومي من ذات الموقع الحكومي عن إجرائها أو قيادتها أو نيل حتى شرف المحاولة.
في هذه المرحلة الانتقالية من عمر الوطن، كان من المفترض أن يتكاتف المغاربة جميعا لبناء وطنهم على قواعد جديدة، وعلى قاعدة التراكم على المنجز الإصلاحي الذي تم في سابق التجارب التدبيرية، مع كل نقاط الضوء ودورات النهوض والإصلاح السالفة، التي أنجزها المغاربة جميعا عبر تاريخهم الحديث وبالتعيين منذ تجربة التناوب التوافقي. فبدلا من أن نشترك معا في حياكة الثوب الجديد الذى يضمنا جميعا، مال البعض إلى منهج الترقيع الجديدة، ومال البعض الآخر إلى أن يشغل ثوبه الجديد بمعزل عن الآخرين لينكث غزله لوحده، ومن ثم يحدد مَنْ مِن الآخرين يكون له نصيب في هذا الثوب وإلى أي حد وكيف.
 
تحالف هجين: حين يبادر قادة الضجيج للمبارزة
ضجيج وصراخ هو حقا عنوان للمرحلة التي نعيشها، وتوصيف دقيق لجانب من حالتنا السياسية، وهامش على متن حياتنا العامة الآن.. ضجيج وصراخ سياسي بين القوى والتيارات السياسية، وضجيج إعلامي وصحفي وصخب مقصود لذاته للتشويش على حالة الإصلاح الجارية في البلد، من غير امتلاك البديل ولا الجرأة على قول الحق جهارا.
وقبل كل ذلك، وبعده، ضجيج في الشارع الاجتماعي العام، مع فورة في انبعاث المطالب الفئوية من داخله والتي زحفت إلى المؤسسات العامة وطفحت كل الميادين من العاصمة حتى بعض الهوامش من المدن، ولم يكن هذا الزحف نتيجة تآمر لإظهار الحكومة ورئيسها بالعجز كما تصوره البعض، بل استنادا إلى مقولة إن الباب مفتوح للجميع في بلد الحريات، القول فيها مباح والصخب العمومي متاح.
بل قل إنه نوع من الأمل والتطلع للأجدى لنوال المراد من المطالب الممتنعة التحقق في سالف الأيام، وإن كان قطافها بتحريك فاعل، وقد يكون نوعا من الضغط لانتزاع حق متوهم أو تحصينه من حكومة باشرت الإصلاحات لتوها من دون تردد أو توجس أو تهيب للكلفة الرمزية والثمن السياسي.
لقد انفجرت كل تلك المطالبات والتهييجات المواكبة لها، والحكومة في بداية مشوارها، وقد أراد البعض أن يأخذها على حين غرة قبل أن تنشغل وتدخل في تقاليد وترتيبات تحجبها عن الحركة والإنجاز وتسويق كسبها الإصلاحي وإذاعته بين الناس. وهنا تبزغ نماذج صارخة تستوجب استحضار روح المسؤولية الوطنية المتجردة والعالية.
 
نماذج..
فوسط كل هذا الضجيج والصراخ، تمر علينا أحداث ووقائع مهمة قد لا نلتفت إليها، ولا نتوقف عندها بالشكل المطلوب، ولا نوليها من الاهتمام الشيء الكثير المستحق من الوقت.
لنتأمل، مثلا، تهديد عدد من الأساتذة بأنهم لن يعودوا لعملهم الاعتيادي مهما كلفهم نضالهم من تضحيات مالية، وأنهم لن يعلنوا نتائج الامتحانات ما لم تتم الاستجابة لمطالبهم المادية المشروعة في الترقية بالشهادة. وقبلهم صدر تهديد مشابه عن زملائهم في إحدى الجامعات المغربية بأنهم سيوقفون العمل في مراقبة الامتحانات للسبب نفسه، في وقت لم يحركوا ساكنا في ما راج من فضيحة تحرش بالطالبات، والتي سبق أن أثارتها الصحافة الوطنية. إضافة إلى إعلان بعض القضاة عن إضرابهم في شكل وقفة وتمنع عن العمل حتى بعد الوفاء بالزيادة في أجورهم.. وغيره كثير…
أعرف وأفهم أن للسادة الأساتذة حقوقا مادية يجب أن تلبى، وأعرف كذلك أن الجامعة بها أزمات أخطر من مسألة الأجور مثل انهيار البحث العلمي والمعرفي وفقر المكتبات وازدحام المدرجات وضعف المستوى التعليمي للطلاب.. وغير ذلك. كما أعرف الإصلاح لا يكون جزئيا معزولا، ولن يكون كذلك، بل وجب مقاربته بمنظور شمولي مندمج. غير أن تلكؤ الدولة فى تلبية المطالب المالية والاعتبارية أو تأجيل الوفاء بها، ليس معناه أن تؤخذ قضايا الناس والمواطنين بعامة رهينة للابتزاز، ويكون الطلاب وأسرهم والمتقاضين والمرتفقين، وغيرهم كثير، رهائن لن يفرج عنهم إلا إذا تم الدفع. لكن يبدو أن القيم الجامعية عندنا في تدهور وتراجع مخيفين.
وأعلم أن القضاء ساحة ومساحة للإصلاح العميق وفقا لثنائية الاستقلال والنزاهة، فهما ضلعان لتشييد العدل وصنوان لتأسيس الإنصاف لا يفترقان في معمار الانتقال التدريجي على درب إصلاح منظومة العدالة. لكن كل ذلك لا يبرر التراخي وامتهان لغة التبرير والابتزاز الصادرة عن بعض مكونات جسم القضاء الكبير والشامخ في بلد تعزّ فيه الكرامة وتختل بموجب ذلك موازين العدالة.
لكل ذلك، أقول أنه وسط ركام الضجيج وتعاظم الصراخ المنبعث في الفضاء العام، خاصة الإعلامي والسياسي، أخشى أن يكون هذا الأسلوب في الاعتراض قد بات مقصودا لذاته في كثير من الحالات لإثبات الوجود ورسم الحضور، وحجب ثمرات الإصلاح ونسف منطقه، وليس انتصارا لقيم الحرية والكرامة الإنسانية.. فلنحذر من التحالف الموضوعي مع الخصوم الطبيعيين للإصلاح.
إن إثارة الحديث عن تلك النماذج من الحضور الطاغي للضجيج ذي الصوت العالي في عدد من الميادين كان مناسبة لإعادة بعث الحياة في مسألة حيوية وغاية في البساطة والأهمية في تدبير الإصلاحات، إزاء موجة الضجيج المفتعل والصخب المراد له أن يملأ الصورة ويشغل الناس عن الجوهر..
إننا في مسيس الحاجة للحكمة لحظة الضجيج، وللنضج لحظة الانحطاط، وللروية لحظة التسرع… كما أننا في حاجة ماسة لتدبير معركة الإصلاح بكثير من الروية والمسؤولية والتبصر، وببراعة بالغة الحكمة والنفاذ، وبعقلانية متبصرة يقظة لحظة انبعاث الضجيج والصخب.. إنها لحظة تتطلب الارتقاء بالوطن للمعاني والقيم الإصلاحية الجامعة لكل قوى الخير والصلاح، مهما تخالفت وجهاتهم في النظر والتقدير، حيث، في مثل هذه اللحظات التاريخية، تصير كلمات الحكماء تُسمع في الهدوء أكثر من صراخ المتسلطين والمستبدين والمشوشين، لأن الشعوب المتخلفة لا تحس بنبضات الزمن وهدير إيقاعاته، فضجيجها يعلو على منطق العمل والتأمل وبلاغة الإنجاز والفعل العميق..
إن ما حدث في الأشهر والأسابيع الماضية من تعبئة على أساس معزول اختلطت فيها شائعات وغيرها، يجعلنا نخشى على بلدنا الانتقال من حالة الحراك الوطني الإصلاحي إلى العراك الحزبي التناحري لا قدر الله. ففي واقع الحال، في هذا السياق بالذات، يغيب التفكير المُركب المنطقي والعقلاني، والحوار الموضوعي الهادئ الذي يجعل الوطن برمته يتأرجح بين ضرورة إجراء الإصلاحات الضرورية التي تستقيم مع ضرورة حماية الدولة من الانهيار والانتقال التدريجي لوضع المغرب على سكة التغيير الشامل، أو رفضها لأسباب موضوعية تتعلق بمدى شرعية الإصلاح نفسه ومستقبل العملية الديمقراطية برمتها. وهنا مكمن الخطورة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا، في ظني ومن خلال متابعة دقيقة لتفاعلات المشهد السياسي والحزبي، انحطاط ورداءة اللغة التي يستعملها عدد من الرموز الحزبية التي تؤثت الوسط السياسي، لغة أتصورها ليست راقية ولا رمزية لها، إنما هي تمتح من قاموس الكراهية بالأساس، وتميل إلى التحذير وتوجيه النصح المتعالي والتلميح الضمني بالمجهول، وضرورة اللحاق بما هم يتبنونه من قناعات.
 في ظل هذا كله، نجد مواقف عديد من الأطراف السياسية في معارضة اليوم غير حاسمة في الموقف من قضية الإصلاح نفسه، وهي تعمل على استعادة خطابات ومفردات تجاوزها واقع حال الخبرة المغربية في الانتقال الهادئ والتغيير الصبور المتراكم، من خلال القطع المبكر مع خطابات الاستئثار والاستفراد ودعاوى الارتداد والنكوص.
 
خطاب المستقبل: للإصلاح ثمن وجب الوفاء بأدائه
لننظر للصورة من وجهة أخرى أكثر عمقا ونظارة وتهيبا ومسؤولية وروحانية وإشراقا.. فربما يكون من الأجدى أن نبتعد بعض الشيء عن السياسة التقريرية المباشرة وتوابعها، وعن المفروض وغير المفروض في سجال القادة والساسة والإعلاميين الذى ينبغي عمله والذى ينبغي تجنبه في خطابات الموجهين والمرشدين، وعن التنظير والتحليل والتفكيك والتركيب..
ففي أكثر من أسبوع فاضت السماء قطرات ندى، ولله الحمد والمنة، أينعت معها الأرض بشرا وزهوا وانتشاء، وأزهرت عطاء وجودا من لدن المنان الرحيم، بما سينعكس على وطننا الحبيب رخاء وهناء.
إنه من المفيد أن نذكر بعض الكلمات المفيدة الجديرة بالتأمل، قبل المعمعة المزمع الدخول فيها بسبب الاستحقاقات السياسية التي علينا القيام بها خلال السنتين القادمتين المتبقيتين من الزمن السياسي الرتيب في عمر هذه التجربة الإصلاحية الفريدة في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، بعيدا عن بورصة السيناريوهات والتوقعات ومناخ الحكايات والأحاجي والألغاز.
فعلى الرغم من أهمية اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا، وكل الغموض الذى يلف كل شيء تقريبا يتعلق بمستقبل مغربنا الحبيب ومؤسساته، والكيفية التي سُنقيم بها وطننا بالإصلاح ونبنيه بالعدل ونعينه في النهوض العميق من عثراته الكثيرة، إلا أن الكلمات الحكيمة والتصرفات السديدة وحدها تكاد تكون غير مسموعة بما فيه الكفاية، بسبب الصرخات التي تتجاذبنا من كل جانب وفي كل الاتجاهات، لكنها قطعا تترك أثرها الغائر فينا.. علما أن سمة الصراخ دوما، على عكس الكلمات الهادئة، أن أصحابه لا يرون إلا أفكارهم ويتمركزون حول ذواتهم، ولا يتيحون فرصة للحوار والنقاش المفتوح والحر، لأنهم يخشون قوة نفاذ الكلمة وأثرها الساحر والباهر والقوي في البشر، وكذا في معادلة التغيير.. إنهم يريدون تأبيد التشويش وإفساد أجواء الحوار العام الراقي والمسؤول. فالصراخ يعني الضجيج الذي يعني، حسبهم، أنهم على حق ولابد من الامتثال لحبال أصواتهم العالية.
ولسوف يلحظ المتابع للمشهد العام في مجمل ساحاته كيف أن هذه السمة ليست حكرا على طرف أو اتجاه بعينه، وإنما  باتت تستشري بين مجمل الفرقاء بصورة أقرب إلى العدوى والإدمان، عزّ معه صون العقل والذوق بما يجعلهما يتجردان انتصارا للوطن أولا. فالكل يدعي أن لديه الحكمة المطلقة والرؤية الثاقبة التي تملك الوصفة السحرية للتغيير، بيد أن افتقاد الحكمة والرؤية التي تنتج عن الصراخ لا يمكن أن يكون لها نفس الأثر الذي تسفر عنه كلمات الحكماء الهادئة الصافية.
 
منطق الهزيمة والصراخ العالي: عبرة من ألمانيا..
في هذا السياق أيضا أذكر أنني قرأت نصا للأديب الألماني هرمان هسه، الذى حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1946، بعنوان دميان، حيث حاول من خلال هذا العمل، الذى كان أقرب إلى سيرته الذاتية، أن يرسل العديد من الرسائل المهمة من خلال علاقة البطل بصديقه بنبرة هادئة ورصينة ومتأملة ومتأنية، رغم أن ألمانيا كانت تموج بالكثير من الضجيج والأحداث الجسام.
فلقد كانت بلاده خارجة من حرب عالمية أولى بهزيمة ثقيلة استطاعت أن تتجاوزها، ولكنها في واقع الأمر كانت تسير في طريق آخر هو النازية، ستجرها إلى هزيمة أخرى أكثر ثقلا لاحقا، ما يعني أنها لم تتعلم من تجربة الهزيمة وأنها في حاجة إلى من يوقظها ويسمعها كلاما حكيما هادئا، بيد أن الصراخ كان عاليا.
ففي هذه اللحظة تحديدا التي كانت ألمانيا تضج بالصراخ، كان هرمان هسه يحاول أن يحتفظ بهدوء يسمح له بتأمل ضجيج هذا الزمن وأن يقدم أفكاره بعمق، ويثير العديد من القضايا حول تناقضات الإنسان والواقع، وأزمة ألمانيا التي بدأت تجتاحها موجة النازية وما تحمله من مقدمات عنف مُقلق، فلا أحد يلتفت إلى أن الإخفاقات كانت كبيرة عقب الحرب العالمية الأولى، وأن تداعيات هذه الإخفاقات كانت أكبر.
قد يكون هناك من يعي جسامة هذه الإخفاقات وتداعياتها.. بيد أن الواقع بما يحمل من موازين قوى كان يتجه نحو مسارات أخرى تعبر عن صراخ المتسلطين، سواء بأموالهم، أو سلطانهم، أو مكانتهم، أو شعوذتهم، أو رفضهم لكل ما هو جديد يقيم الوطن من عثراته، أكثر من أن تعبر عن كلمات الحكماء التي تحتاج إلى الهدوء. ففي زمن الصراخ، يخفت صوت العقل، وتتراجع المعرفة والعلم. فلا تعد هناك حاجة إلى تفهم الأسباب أو إثارة القضايا الحقيقية أو التعلم من خبرة الماضي أو خبرة الآخرين أو التمييز بين المواقف التي تعكس حراكا مجتمعيا حقيقيا بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية، وبين العراك الذى يؤجج من الصراخ الذى يطال كل الاتجاهات ويمتد إلى كل المساحات في التجربة الإصلاحية، والتطور السياسي الوطني العنيد.
كم نحتاج اليوم إلى خطابات الروية والهدوء، وصوغ كلمات الحكمة والمروءة كي تدلنا: هل نسير في طريق التغيير المطلوب أم أننا ننحرف عنه متنكبين، بما يعنى تكريسا جديدا لما هو قائم من جمود؟
 
الخلاصة.. عود على بدء..
إنني أستشعر الخطر، خاصة أن خارطة الإصلاحات الهيكلية، التي بدأت ملامحها في البزوغ مع تفتق هذه التجربة الحكومية وفي سياق مرحلة الانتقال الديمقراطي الجارية، ليست إلا خطوة أولى سوف تعقبها خطوات أخرى بالتأكيد، إن خلصت النيات ورست سفينة الوطن على أطروحة الإصلاح في إطار الاستقرار دون أفق ارتداد لا قدر الله.
وأظن أن من صالح التجربة الوليدة التي تعيشها بلادنا أن يتم التفعيل للحركة المشتركة بين المغاربة جميعا من خلال إعمال مقاربة التشارك واللقاء والوفاق، لا الرهان على تفخيخ الإصلاح ووضع المطبات له بالإرباك والتعطيل أو الإرجاء والتأجيل.
فالمجال العام المدني والسياسي، كما عكسه ميدان تحرير الألسن من الخوف، لابد من الحفاظ على طابعه المدني والسلمي وعلى المسافة بين ما هو عام وسياسي، وبين ما هو حزبي محدود الأفق بحجم محدودية الذات الحزبية التي تحمله والولاء لغرورها والانتصار لنرجسيتها، وإلا تحولنا جميعا، كبلد، إلى دولة بائسة معزولة منهكة القوى عاجزة عن الفعل.
وهى خبرة عرفتها العديد من الدول العالم ثالثية، ولم تكن تعني الخصومة فيها مع مدبري الشأن العام سوى مراكمة الفشل تلو الفشل، لأن الشرعية الشعبية للناس حاضرة في الحياة اليومية، ولكن دعاة الجمود السلطوي لا يبتغون أن تتحرك السياسة ليتحرك قطار الإصلاح وليكبر البلد برمته بكبر قادته وارتقاء نخبته لآفاق الوطن الرحيبة والواسعة، ومهما يكن الثمن المبذول، ألم يقل الأستاذ ابن كيران في دافوس أنه لا يهم أن نكون في الصورة، المهم أن يتقدم الوطن ونرتقي به أجمعين، لكي نموت ويحيا فينا وبنا الوطن، مهما تكن العناوين واليافطات.
إننا في حاجة إلى حوار وطني مسؤول يضمن استمرارية الحراك الوطني المشترك، بحيث نضع بعض القواعد الاخلاقية، التي يجب أن يتم الاتفاق عليها بما تحول دون الوقوع في فخ العراك على أساس الهويات والتحيزات ما قبل وطنية.
*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.