اليحياوي يكتب : القاتل مقتولا

11-10-19
يحزنني الأمر كثيرا حينما أشاهد شبابا معطلا محتجا, جماعات وفرادى, أمام الوزارات أو العمالات أو الولايات, وأمام ردهات البرلمان أيضا, مطالبا ببعض من الإنصاف في حق شهادة عليا تبحث عن تقييم, أو بحق تكوين تم بالكامل المكتمل, لكنه لم يجد بالطرف الآخر, إقبالا أو استلطافا تحت هذا المسوغ أو ذاك.
هي احتجاجات تنبني على مطالب موضوعية ومشروعة, ترتكن على الدستور لإعمالها, وتنطلق من الحق في الاحتجاج السلمي, الذي تضمنه اللوائح والقوانين والتشريعات.
ليس مهما أن تتعامل السلطات العمومية بالإيجاب مع ذات الاحتجاجات, فتلك مسألة ضغط وموازين قوى. وليس من المفروض أن يدرك المحتجون مبتغاهم لأول وهلة, وبأول محاولة, فتلك مسألة وقت, وطول نفس وتوظيف للتكتيكات والمراوغات وفنون الحوار, من لدن هذه الجهة كما من لدن تلك.
لكن الذي لا يمكن للمرء أن يتغاضى عنه, فما بالك أن يقبل به أو يتقبله, إنما أمران اثنان:
 الأول: ليس من حق المحتجين أن يذهبوا في احتجاجاتهم لحد تقويض مبد الأمن العام, بإغلاق الشوارع والطرقات مثلا, أو باستهداف المرافق العامة تدميرا أو حرقا, أو بالحؤول دون استمرارية المرفق العام, أو ما سوى ذلك.
 الثاني: ليس من حق السلطات العمومية, إن احترم المحتجون هذه المنطلقات, أن تمنعهم من الاحتجاج, أو تغلق الشوارع والطرقات بوجههم, أو تعمل هذا “الاستثناء” أو ذاك لثنيهم عما هم عازمون عليه.

إن ما سبق ذكره هو الحد الأدنى لضمان حق الطرفين, محتجين وسلطات عمومية, وهو الحد الفاصل أيضا, لضمان حق المجتمع في ألا تتعطل مصالحه, أو تحول مجريات الاحتجاج دون حريته في الحل والترحال.
كل هذا قد يتم تنظيمه أو تقنينه أو التوافق بشأنه, لكن الذي لا يمكن القبول به بالجملة والتفصيل, إنما إعمال السلطات العمومية لمنطق التعنيف بسبب مبرر أحيانا, ودونما أسباب موضوعية تذكر في الغالب من الأحايين.
والسلطات العمومية التي تلجأ لهذه الوسيلة, ليست مؤسسة هلامية ولا هي بالجهة المجهولة الصفة, إنها الداخلية بكل مستوياتها الخشنة, من شرطة ودرك وقوات مساعدة, تحتكم كلها لقوة النار والحديد, فتعمد إليها تلقائيا, باستفزازها تارة, أو بأمر مباشر صادر عن هذا المستوى التقريري أو ذاك, تارات أخرى.
إنها القوة الظاهرة التي تعمل على تنفيذ قرارات قوة خفية, لا تشتغل مباشرة بالأرض, لكنها تقرر وتحسم وتصدر التوجيهات, بناء على تقارير, أو قياسا إلى حسابات, أو تقديرا من لدنها قد لا يكون دائما دقيقا أو محسوبا.
والقوة الظاهرة التي نقصدها هنا هم ذاك الشرطي أو الدركي أو المنتظم بسلك القوات المساعدة, والذين لا يحصلون في مجملهم على أكثر بقليل من الحد الأدنى للأجور…أي لا يختلفون كثيرا عن الذين يحتجون ( أعداءهم ” الافتراضيين” بالمحصلة), إلا “بسمو” اللباس الرسمي, والاحتكام إلى أداة القمع, بارودة كانت, أم عصا, أم حزاما مصنوعا من مادة صلبة, لا يبدو بكل الأحوال أنها قطن أو نسيج ناعم.
هؤلاء هم الذين يتصدون للاحتجاجات, لا بل هم من يخمد نارها في الغالب الأعم, تفريقا سلميا, أو إعمالا للقوة الخشنة التي تضرب في المقتل ( والمطلوب منها أن تضرب بالمقتل, بالرأس وبالبطن على وجه التحديد).
إنهم هم الذين ينوبون عن “الأعداء الواقعيين”, المرابطين بمكاتبهم المكيفة, أو المقيمين بضيعاتهم الشاسعة, أو المتناوبين على خطوط الطيران لتنفيذ هذه “المهمة” أو تلك, أو للاستجمام على حساب المال العام.
إن هؤلاء, شرطة ودركا وقوات مساعدة, إنما يقتلون أناسا من نفس طبقتهم, لا بل إنهم لا يتوانوا في اقتناء نفس وسيلة النقل تماما كضحاياهم, عندما تنتهي الجولة, ويعود كل إلى حال سبيله ومكان مبيته.
ثم إن هؤلاء هم الذين لا يتوانوا في ضرب وتعنيف محتجين, قد يكونوا مجهولين, لكنهم خاضعين معا لنفس الظلم والضيم تماما كجلاديهم, لا بل ولربما يقطن هذا بمحاداة الآخر, بهذا الحي الصفيحي البئيس, أو بهذا التجمع البشري ” العمراني” أو ذاك.
إني بهم ولكأنهم يقتلون بعضهم البعض, في حين أن الآمر بالقتل والتعنيف وأبناؤه, بعيدون عن ساحة القتال وما يترتب عنها من تداعيات. إنهم يتركوننا نقتل بعضنا البعض, من أجل ضمان حمايتهم وصيانة مصالحهم.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.