الرحموني يكتب : في ضرورة مجابهة المنطق العنيد للتسلط

خالد رحموني*
 مع بداية تشكل ملامح سلطة الشعب المدنية المنتخبة بعد هبوب رياح الحراك الديموقراطي، والاستجابة المغربية الذكية لحركة المد الديمقراطي بإقرار دستور يؤكد منطق اقتسام السلطة، وفي أول استشارة انتخابية غير مطعون في مصداقيتها، ومع تسلم جزء من السلطة التنفيذية من طرف معارضة الأمس، وفي طليعتها حزب العدالة والتنمية، سوف تبدأ مرحلة أخرى من المواجهة مع مراكز الاستبداد والتسلط والفساد العمومي،  مجابهة علنية حينا وخُفية أحايين كثيرة، بين مسار التغيير والإصلاح المسنود شعبيا  وبين الجهاز الإداري للدولة القائم على الضبط والتحكم.
 إن الدولة بهذا المعنى الضبطي التسلطي هي الجهاز الأول المعنى بعملية التغيير والإصلاح باعتبارها موضوعا له ومحلا لاستقباله، وهي أيضا أداة للإصلاح  و”التحويل” الديمقراطي لاشتغالها، وذلك بفك ارتهانها عن جهاز السلطة الأمنية المتنفذ، الذي تشكل في عهد  التسلط حيث كان التنازع حول المشروعية داخل الدولة والمجتمع معا، حيث تم استعمال في الصراع ذاته أدوات الهيمنة والسيطرة المادية والرمزية السياسية والثقافية، فتشكلت قواعد وقوانين وتقاليد وأجواء حاطة بكرامة الإنسان، والاجتماع المواطناتي على أساس عقد الشرعية الدستورية الديمقراطية، وتشكلت حوله أيضا دوائر من المصالح والعلاقات والأنساق الزبائنية بينها اعتماد متبادل للموارد والمنافع أسس لكل أشكال الريع الاقتصادي والسياسي حيث غدت تتمترس داخله شبكات حصينة وبعيدة عن أي مسائلة أومحاسبة بل ومتخفية حتى عن الرقابة الإدارية و الإعلامية ناهيك عن الرقابة الشعبية.
وأضحت بنيات الدولة “التسلطية” تشتغل ضد منطق المجتمع، وعلى تخومه تنتعش كل أشكال “الارتزاق” العمومي.
لقد أفضى هذا الوضع إلى جعل جهاز الدولة هدفا أساسيا، واستراتيجيا لعمليات التغيير والإصلاح في الحال الذي وجب أن يكون فاعلا في ديناميت التغيير، ومواكبا لها وعاكسا لتفاعلات المجتمع وفيا لتطلعاته وآماله، حتى يتم بناء النظام السياسي الديمقراطي الجديد على أسس المحاسبة العمومية والرقابة الشعبية والمسؤولية السياسية،  تكريسا لانتقال ديمقراطي سياسي سلس تصبح فيه الدولة تعبيرا أمينا عن المجتمع، ونابعة منه، ليغدو هذا المجتمع موطنا للشرعية والمشروعية الديمقراطيتين، وحاضنا لعقد المواطنة الكاملة والعادلة.
 لكن معاينة المسار الحالي للإصلاح يؤكد- بغير ما تردد- أنه بات واضحا أن وضع جهاز الدولة بهذا المعنى وصل إلى مرحلة جد مركبة ومعقدة، إن لم أقل عصية على “التحويل” الديمقراطي لمنطق اشتغالها، حيث تم ترتيب الأوضاع الداخلية للدولة وأجهزتها العميقة من طرف تحالف النخب السائدة والمسندة لمنطق الهيمنة والمنتجة لآليات التسلط والسيطرة بصورة متراكمة عبر عقود مديدة، فبات تغيير الجهاز الإداري للدولة من داخله أمر بالغ التركيب والعسر والتعقيدً، خاصة مع استحضار طبيعة تكوين النخب المولية والدولية المشكلة لمعمار تلك الأجهزة والمستمدة لشرعيتها من منطق القرب السلطاني والنخاعة التقنقراطية والفعالية الإنجازية والولاء لمركز الحكم، وهى النخب المسيطرة على مجمل أجهزة الدولة العتيقة العميقة، وتعرف كل تقاليدها وقوانينها الداخلية، وهى النخب ذاتها التي يمكن أن تحرك جهاز الدولة في الاتجاه الذي تريده  ولو كان  ضد الإرادة الشعبية المتحالفة مع النخب الممثلة لها، والنابعة من رحم الحراك السياسي المتجلي انتخابيا ..
إن تلك النخبة، التي تتشكل من جيش من العاملين بالجهاز الإداري للدولة في الوظائف العليا المركزية والمجالية معا القطاعية والمناطقية، عملت على ترتيت مصالحها على مقاس الأوضاع القديمة بتوهم الاستقرار الكاذب والاستثناء الافتراضي المكابر والذي تفجر منطقه عشية الاحتجاجات السلمية الشعبية المنادية بالإصلاح والتغيير (المنطق الزبوني، والوسائطية وتبادل المنافع  من جهة ومنطق التحكم الأمني لأجهزة الداخلية)، كما أن أداءها تشكل طبقًا للأوضاع القديمة، حتى باتت غير قادرة على تغيير أدائها( سطوة الآلة القمعية واستئسادها، في غير ما موقع،على عناوين الكرامة والمواطنة والاحتجاجات المدنية السلمية في هوامش وفئات حضرية وطرفية  وأيضا حركة المعطلين).
لذا أصبحنا فى مرحلة ما بعد التنصيب البرلماني للحكومة، وتسليم هامش السلطة التنفيذية للمنتخبين المفوضين بالعقد الاقتراعي العام، والتي قاربت على الانتهاء وتعاني قضما خفيا غير معلن لا يكل أو يمل لمراكز مقاومة التغيير للاختصاصات ومجالات النفوذ  والمسؤولية ( قمع الاحتجاجات ومصادرة الحق في انتزاع الحق في امتلاك الحيز العام وممارسة دور الرقيب المدني والسلطة المضادة لتغول الأجهزة المومئ إليها سلفا )، في مواجهة بين مسار التغيير والإصلاح، وبين الجهاز الإداري للدولة التسلطية ذات المنزع الضبطي والتحكمي، الرافض لأي عملية تغيير أو إصلاح أو تعديل استراتيجي في نسق الجمود و التقليد المولوي الرتيب الذي يراهن على الزمن لخفوت وهج الربيع الديمقراطي المتداعي ..
 فمن المتوقع أن تجد القوى السياسية  والمجتمعية المؤمنة بمنطق التراكم المتدرج في الإصلاح وذات المنزع الإصلاحي والمطمح التغييري، إن تجد تلك القوى مقاومة واضحة من الجهاز الإداري للدولة العتيقة العميقة اتجاه عمليات التغيير وسيرورات الإصلاح، تصل لحد تمرد ذات الجهاز الدولتي التسلطي على قوى التغيير والإصلاح، ومحاولته استعادة المبادرة في اتجاه الهيمنة على بُنى الدولة الدمقراطية والمجتمع المدني، وافتكاك مساحات السلطة المضادة للشارع والاحتجاج السلمي ، وعلى ما يترتب على كل ذلك من عملية تغيير في تكتيك الاحتواء والسيطرة .. كما أن هذه المواجهة سوف تشتدد بين القوى السياسية الحاكمة الجديدة الطامحة لانتزاع مساحات نفوذ جديد للسلطة التنفيذية وفق منطق تعزيز الثقة في مركز الحكم وبمقاربة تنحو في اتجاه تأكيد شرعية الانجاز وفق معادلة التغيير في إطار الاستقرار، وبين النخب التقليدية لبنى الدولة العميقة والعتيقة ، والتي تعتبر نفسها أنها كانت جزءًا من سلطة الحكم التسلطي ، ثم أصبحت سلطتها التمثيلية مهددة في معاقلها من جديد .
فنخب الدولة كانت جزءا من شبكة المصالح المتحكمة في السلطة في الزمن السياسي السابق على الربيع العربي الديمقراطي، بما يعنى أنها مثلت جزءا أصيلا من نخب الحكم المسيطرة المنزوعة الأهلية والشرعية الشعبية على مقاليد الأمور، وبعد التحول الديمقراطى، أصبحت النخب المولوية التقليدية  الدولة العميقة العتيقة مهددة بأوضاع جديدة، تنزع عنها دورها كجزء من نخبة الحكم، وتحولها إلى نخبة إدارية وفنية  تقنقراطية لا تملك سلطات الحكم ولا مراكزه الشرعية  والديمقراطية .
وليس من الصعب تصور ما كان لنخب تلك الدولة من سلطات واسعة متغولة لا تأبه بمنطق الشرعية الشعبية المؤسسة للمواطنة الكاملة ، وما كان لها من امتيازات ومصالح وشبكات نفوذ وزبونية، تجعلها في الواقع شريكا للنخبة الحاكمة المستبدة المالكة لمقاليد القرار الاستراتيجي، خاصة أن أي نظام مستبد يعتمد أساسًا على السيطرة على البُنى العميقة للدولة، مما يجعله يضع كل السلطات في يد نخب الدولة المتحالفة معه، والتي تسيطر على مقدرات الدولة، لصالح نخبة الحكم، ولمصالحها نفسها، حتى أصبحت نخبة الدولة من أهم الشبكات المنتفعة من النظام التسلطي، وبالتالي من أهم الفئات المتضررة من التغيير الحادث بعد الربيع الديمقراطي .. لذا سوف تحاول نخبة الدولة الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها في القادم من الأيام والتطورات الكامنة في المشهد السياسي ، وربما تجعل تعاونها مع أي نخبة حكم جديدة، مشروطا بحفاظها على امتيازاتها التي راكمتها عبر العهد السابق.. مما يجعل نخبة الدولة تمثل التحدي الأكبر أمام مسار التجربة الإصلاحية الجارية، فهل يتم إدراك ذلك؟

 * عضو المجلس الوطني للعدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.