حامي الدين يكتب : السياق السياسي لمعاهدة الحماية 2/3

عبد العلي حامي الدين*
بعد الفشل الذي مني به المغرب أمام فرنسا في معركة إيسلي (1844م/1260هـ)، تعرض  مرة أخرى لانتكاسة ثانية أمام إسبانيا في حرب تطوان (1860م/1276هـ)، وهو ما دفع بالسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن (1859-1873م) (1276-1290هـ) إلى طرح سؤال التحديث على العلماء المغاربة، ودفعهم إلى “التدبر والتفكير في أسباب الهزيمة وظروفها. وقد تنبه المغاربة إلى أن الأنظمة العتيقة في الجيش وفي الدولة لم تعد مجدية إزاء التقدم الأوربي الحديث، وظهرت الحاجة للتجديد وانتحال وسائل التقدم والنهوض”.
فألف العلامة محمد بن عبد القادر الكردودي “كشف الغمة في بيان أن حرب النظام واجب على هذه الأمة”، وهي دعوة قوية لتجديد التنظيم العسكري بمقتضى القواعد الحديثة، واهتم غيره بضرورة إصلاح الأوضاع الاقتصادية للتحرر من الموارد الأجنبية.
وألف القاضي محمد الفلاق السفياني(توفي سنة 1895م/1318هـ) كتاب “تاج الملك المبتكر ومداده من خراج وعسكر” بعد حرب تطوان بحوالي سنتين، حاول فيه طرح نظرته حول إشكالية تحديث القطاع العسكري، الذي ربطه بتحديث نظام الدولة، وعلى خلاف معاصريه تجاوز الفلاق الحجج الفقهية، واعتبر بأن الاستعداد (القوة) ينبني على أصول تقنية علمية منطقية مشتركة.
وكتب الغالي بن محمد اللجائي(توفي 1872م/1289هـ) “مقمع الكفرة بالسنان والحسام في بيان إيجاب الاستعداد وحرب النظام” دافع من خلاله بكل الحجج الفقهية الممكنة عن جواز اقتباس التقنيات الحديثة من أوربا.
ولم يفوت العلماء العشرة الذين توجه لهم السلطان بطلب الاستشارة ، ليعبروا عن آرائهم اتجاه نظام الحكم القائم، وهكذا احتلت “الخلافة” (بما تعنيه من نظام الحكم النموذجي في التصور الإسلامي) حيزا هاما في الكتابات المغربية خلال هذه المرحلة، والتي اعتبرتها المصدر الأساسي الوحيد لحل الأزمة: ف”اللجائي” في “مقمع الكفرة” و”الفلاق” في “تاج المبتكر” و”السملالي” في “عناية الاستعانة” يرددونها في كل فصل من فصول كتابهم، كما أن المؤرخ اكنسوس محمد افتتح مقدمة كتابه (الجيش العرمرم…) بالحديث عن الخلافة وأهميتها، وخصص العربي المشرفي خاتمة كتابه (طرس الأخبار) للحديث عن أهمية الخلافة ودورها في حل الأزمة ومواجهة الغزو الاستعماري.
وعموما لا يخلو كتاب أو بحث أو رسالة صغيرة مهما كان حجمها من الكلام عن الخلافة في هذه المرحلة مما يؤكد أن الحل السياسي هو الحل الأساسي للخروج من الأزمة في نظر العلماء خلال هذه الفترة الدقيقة.
كما تناولت النخبة المغربية خلال هذه الفترة الشروط الواجب توفرها في الخليفة، هذه الشروط التي تبين تصور النخبة المغربية آنذاك لمؤسسة الرئاسة ولنمط العلاقة التي تحكم رئيس الدولة (الخليفة) مع المواطنين (رعاياه).
كما تحدث العلماء في هذه المرحلة عن مؤسسة الشورى، لذلك نجد السملالي يشترط مجلسا للشورى وإدارة صالحة، محددا شروط كل مسؤول فيها، من الوزير إلى ما دونه.كما تطرق إلى حسن السلوك الذي يلزم الملوك وجمعها في عشرة شروط.
من خلال كل ما سبق يتضح أن التفكير في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، شغل العلماء قبل مرحلة الحماية، ودفعهم إلى البحث في سبل جديدة للتنظيم السياسي والدستوري، ومحاولة الكشف عن تقنيات حديثة لتنظيم الهياكل المخزنية الهشة، والحد في نفس الوقت من سلطات السلطان المطلقة.
ومع وفاة الملك الحسن الأول سنة 1894، تولى الحكم المولى عبد العزيز الذي كان صغير السن، قليل الخبرة، ناقص الإحساس بالمسؤولية، ولذلك كان رئيس الدولة الفعلي في تلك الفترة هو أحمد بن موسى الذي توفي سنة 1900 (هناك نصوص طويلة ذكرها المشرفي في “الحلل البهية”، تعرض فيها لانحلال خلق بعض المسؤولين الكبار من الوزراء والحجاب، مثل الحاجب أحمد بن موسى، والثراء الفاحش الذي وصل إليه من خلال اختلاس أموال الشعب).
وقد تميزت هذه المرحلة بتزايد الأطماع الأجنبية في المغرب، التي استغلت أوضاع الظلم السياسي والقهر والقمع والضعف الاقتصادي وتنامي الفقر والجهل والصراع القبلي، استغلت الأطراف الخارجية هذه الظروف لتركز عناصر التغلغل الاقتصادي الأوربي، وتزيد من تأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسكان، خصوصا أمام هشاشة البنيات السوسيوسياسية وعدم قدرتها على مواجهة المد الاستعماري الغربي، الذي وصفه الناصري بقوله: “… وما منهم إلا من استأسد وتنمر، وليس في وجوههم من الحياء علامة ولا أثر، ولا يقبلون موعظة إذ ليسوا من أهل الفكر، فلا يمكن دفعهم إلا بجيش عظيم وعسكر، يصاح فيهم بالنهي وهم في طغيانهم يعمهون، ولا يلتفتون إلى من نهاهم، بل لا يشعرون ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون…”، ومعلوم أن الناصري عايش فترة زاخرة بمظاهر تقهقر المغاربة أمام الأوربيين، وقد تجسدت هذه المظاهر في الهزائم العسكرية (هزيمة إيسلي..)، والانتكاسات الاقتصادية التي جسدتها الاتفاقية الانجليزية-المغربية لسنة 1856، كما عايش انتكاسات سياسية كانت مجملها تتلخص في المساس بالسيادة المغربية كمشكل الحمايات الخاصة، وتفويت الأراضي للأجانب في البوادي وحول أهم المدن، وارتفاع أعداد الأجانب في البلاد.
و يظهر هذا النص مدى قوة التدخل الأجنبي في المغرب (استأسد وتنمر)، وعدم الاستعداد للحوار والتفاهم (ولا يقبلون موعظة) مما جعل الناصري يقر باستحالة دفع التدخل الأجنبي “إلا بجيش عظيم وعسكر”.
ذلك أن هذا التدخل هو السبب الحقيقي وراء تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة وانتشار الفقر والمرض…،. وهكذا سيتقلص دور المخزن أمام الضغط الأوربي، وبدأ السلطان عبد العزيز ـ خصوصا بعد وفاة باحماد ـ يبسط يديه للأجانب ليقترض ويتلقى النصح رغما عن أنفه، وبدأ “النظام السياسي” يفقد في شخص الملك الشرعية التي كان يتوفر عليها حتى زمن مولاي الحسن.
وقد وجد فقدان الشرعية هذا، محور ارتكاز لدى العلماء الذين أصبحوا يشكلون نواة المعارضة، باعتبارهم قاعدة الحياة الاجتماعية في النظام المغربي “الإسلامي”، وقد لعبوا دورا أساسيا في تلك المرحلة في تجديد نخبة المخزن وذلك بدعمه “بأهم الموظفين في القضاء، وفي التعليم وفي الفتوى، وفي بعض المناصب الإدارية الأخرى: فهم يساهمون في الإنتاج ويتدخلون في الشؤون العامة، ويلعبون دورا قياديا في مجتمع تقليدي”.
وهكذا سيبرز دور العلماء مع توقيع السلطان عبد العزيز على اتفاقية الجزيرة الخضراء 1906م، هذه الاتفاقية التي اعتبرت، مع ما تضمنته من بنود، تفريطا في حقوق الأمة المغربية، مما دفع بكثير من العلماء إلى مناهضتها. ويمكن أن نعتبر هذه الاتفاقية بمثابة محفز إضافي مباشر للمفكرين المغاربة للتأمل في المسألة السياسية والدستورية بشكل جدي، وقد كانت إنتاجات الفكر السياسي المغربي في هذه المرحلة تصب كلها في تجاه تعزيز آلية الشورى وتوسيع دائرة صناعة القرار السياسي، ومناهضة الاستبداد.
ومن بين هذه الإنتاجات نجد نص “مشروع بن سعيد، ومشروع علي زنيبر السلوي، ومشروع دستور 1906، ومشروع دستور 1908، كما شكلت “البيعة الحفيظية” بشروطها بداية الوعي بالمسألة السياسية الدستورية وتجسيدها في نماذج تطبيقية عملية..

*أستاذ القانون الدستوري  بكلية الحقوق بجامعة عبد المالك  السعدي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.