رحموني يكتب: الخطاب السياسي والتحول الديمقراطي

خالد رحموني*
   حين يتصل الأمر بمستقبل شعب بأكمله، فإن الاستغراق المفرط في الحساسية إزاء مفردة تقال هنا أو تدبج هناك من مفردات الخطاب اليومي أو اقتراح يقدم هنا من هذا الجانب أو إجراء يرسله ذاك أو مفهوم يرصع هنالك في متن الخطاب الجماهيري العام .
 إن هذا الإسراف والاستدعاء المبالغ فيه والمتابع لجزئيات المواقف وذريتها لبعض من تلك المفاهيم التفصيلية المشاعة والرائجة في الفضاء العمومي، إن كل ذلك ليغدو مهددا حقيقيا لمستقبل مجمل العمل الوطني السياسي الجاد وللفعل المدني المجتمعي المبادر برمته.
في ظل الغموض الذي يحيط بمواقف الأطراف المشاركة – قانونا أو فعلا – في عمليات الحراك الاجتماعي والسياسي الدائر ولفكرها السياسي ومقدماته الثقافية والمعرفية، في تحمل المسئولية خلال هذه الفترة الانتقالية من التطور السياسي والمجتمعي لبلدنا والتي تفصلنا :
-أولا: عن لحظة اندلاع شرارة الحراك الديمقراطي الراهن مغربيا ( الممثل في حركة 20 فبراير) والمتزامن مع انقداح شرارة ربيع الثورات العربية في العديد من الجمهوريات الملكية والأوطان المأسورة لحكم العائلات المغلق والمؤبد،
-وثانيا عن لحظة الاستقرار الزائف والشكلي القائم على القهر، في ظل الاستجابة الجزئية المحدودة للمطالب السياسية والمجتمعية الصاعدة من تحت من القاع الاجتماعي ..
ويكشف التأمل الدقيق في عناصر المشهد السياسي والاجتماعي القائم في المغرب السياسي والعميق على حد السواء، عن عدة أمور لابد من الاعتراف بوجودها والبحث لها عن مخرج آمن من ناحية، وفعال من ناحية أخرى.
في هذه المحاولة الاسترجاعية والنقدية لمفردات الخطاب السياسي والفكري المواكب للتحول الديمقراطي للأطراف الرئيسية وللتيارات الفكرية الفاعلة في المشهد السياسي، سنحاول رصد النسق الفكري والسياسي للوقائع والظواهر كما تحددت على سطح السياق المجتمعي في لحظته الراهنة المتمخضة عن الحراك، وذلك قبل أن ننتقل إلى تحليلها نظريا لاستجلاء عمقها التطوري الناظم لنسق فعلها، بحثا عن خريطة طريق وبرنامج عمل إصلاحي فكري سياسي يحقق الأهداف الكبرى التي قامت من أجلها حركة المطالبة بالإصلاحات العميقة للنظام السياسي المغربي وللأوضاع الفاسدة الآسنة عموما .
 أولا: المشهد السياسي والمجتمعي القائم: بين أهداف الانتفاضة الديمقراطية الكبرى وانزياح التقاطبات الاختزالية الاديلوجية الصغرى:
 في مقدمة عناصر المشهد السياسي والمجتمعي القائم، نجد اختلاف الآراء وتشعب الجدل حول أهداف الانتفاضة الديمقراطية التي أخذت ملامح حركة 20 فبراير، ومعالم التغيير الذي نادت به القوى والائتلافات والأحزاب والتجمعات التي شاركت في اندلاع وقيام تلك الفورة المجتمعية الفريدة أو التي التحقت بها والتي ترسخت أركان بعضها في ظلها بحكم تفاعلها مع مخرجاتها التغييرية والإصلاحية أو حتى التي ناوئتها وناصبتها العداء. والتي وجدت لها صدى رسميا ذكيا ومتفردا في سماء البلادة الرسمية العربية المتعاطية سلبيا مع موجات الانفجار الثوري المنادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية كعناوين لها.
ولما كانت مراحل التحولات التاريخية النوعية تتداخل وتتراكب، بحيث تكون كل مرحلة منها مقدمة للمرحلة التي تليها، فإنه من الضروري ملاحظة أن التنظيمات القائمة والقوى التي تعبر عنها تلك المنظمات كان كثير منها قائما صراحة، أو كامنا مؤقتا في ظل المرحلة السابقة على اندلاع الحراك الديمقراطي .. ذلك أن المجتمع المغربي قد ظل خلال الأعوام الماضية التي سبقت الانتفاضة الديمقراطية يواجه عدة ظواهر ولدت وتطورت تدريجيا خلال تلك السنوات.. أهمها:
1ــ ظهور استقطاب واضح ارتقى إلى صراع عنيد بين تيارين من تيارات الفكر السياسي والاجتماعي يعبران ــ في كثير من الأحوال ــ عن تناقضات بين مصالح الفئات والقوى والطبقات وتشكيلات النخب التي تتكون منها تلك التيارات، وهو استقطاب تنافسي في تجليه الأدنى، إقصائي استبعادي لغيره في حده الأقصى، وخطوطه ــ في أغلبها ــ ذات طابع اقتصادي واضح، فقد انقسم المجتمع المغربي إلى قسمين يعبران عن نوعين مختلفين من المصالح، يمثل :
-أولهما تشكيلات الفئات الكادحة المهمشة والطبقات المحرومة المستبعدة قسرا من دائرة الإنتاج، والتي امتلأت بها الساحة المغربية في عواصم الجهات والمدن الكبرى، وفي ساحات أخرى على امتداد أقاليم المغرب من أدنى شرقه إلى أقصى جنوبه،
-بينما يعبر الآخر عن مصالح الأغنياء والمترفين الذين ينفصل بعضهم عن الهموم العامة للأغلبية الساحقة من أبناء المغرب العميق.
ولم يكن غريبا ــ في ظل هذا التباين في المصالح الاقتصادية ــ أن ينادى الفريق الأول بضرورة إقامة عدالة اجتماعية تقوم مؤسسات الدولة على تحقيقها وحراستها، بينما ينادى الفريق الآخر بإقامة نظام رأسمال عائلي وإقطاع فئوي وطبقي قائم على ترك الحياة الاقتصادية، ومن بعدها الحياة الاجتماعية لقوانين العرض والطلب أو ما يسمى “قوانين السوق” والتنافس المحموم للكسب الريعي والربحي السريعين، وما يوصف جملة بأنه نظام الحرية الاقتصادية التي يؤدى القطاع الخاص دور الريادة والقيادة فيها والذي بلغ منتهاه مع مسلسل الخوصصة. ومن المؤكد أن التنافس والصدام تصاعد إلى درجة غير مسبوقة بين هاتين الفلسفتين بل المنظومتين، مصحوبا باستقطاب حاد يمثل صراعا بين الفئات المهمشة التي يعيش أغلبية أفرادها حياة غير إنسانية تتجاوز في هبوطها ما يسميه الاقتصاديون عتبة وخط الفقر، وبين الفئات التي تكاد تحتكر حياة الثراء والرخاء والاستغناء، ويمكن أن نلخص هذه الحالة من حالات الاستقطاب بأنها ثمرة الفجوة المتصاعدة بين “الفقر المذل” وأصحاب “الثراء المضل”.
2ــ ومن هذه الظواهر تصاعد الاستقطاب والصراع بين دعاة ما يسمى “العلمانية” و”الدولة المدنية” وأصحاب “المشروع الحداثي الديمقراطي” من ناحية، وبين قوى التيار الإسلامي المحافظ حسب بعض التوصيفات على تعدد الجماعات والأحزاب وعناصر النخب المعبرة عنها والمكونة لنسيجها.
ولما كانت ملابسات الانتفاضة الديمقراطية التي صار يؤرخ لها بحركة 20 فبراير قد طرأ عليها ــ على غير توقع ــ تصاعد كبير في الدور الذي تقوم به الأحزاب والجماعات التي يصفها أصحابها بأنها “ذات مرجعية إسلامية”، ففي تقديرنا أن خطأ علميا وسياسيا جسيما قد تحملته وشاركت فيه النخب السياسية والثقافية جميعها حين توقف “الحوار الوطني” بين عناصرها حول الظاهرة الدينية عموما والمسألة الدينية وخصوصا مدى حضور الدين العام وبالتحديد تصاعد المد الإسلامي الاحتجاجي منه والإحيائي والسياسي المشارك والمقاطع المحافظ والمجدد  سواء بجوانبه الإيجابية المشرقة، أو جوانبه السلبية التي تصدر عن فهم خاطئ ومغلوط لموقف الدين في المجتمع والدولة والشأن العام، وفي مقدمتها على الساحة المغربية قضية الهوية والمرجعية الممثلة في الإسلام الوسطي المعتدل بمقاصده الكبرى وروحه الإنسانية السمحة، وشريعته التي تحكمها قواعد كلية تترجمها وتفصلها إلى أحكام جزئية تقوم على الإيمان بالحرية الإنسانية وتوظيفها لإقامة علاقات فردية وجماعية من شأنها الاستجابة العاقلة لحاجات الناس منفردين ومجتمعين، مسلمين وغير مسلمين.
 ثانيا : المسألة الدينية، أو حضور الدين في المجال العام، بين قوى النفوذ السلطوي والمسؤولية الأخلاقية للمثقفين العضويين من مفكرين وقادة رأي وعلماء:
 إن جوهر الخطأ الذي شاركت فيه النخب والقيادات الفكرية جميعها أنها أحالت ملف القضية ( قضية تجديد الفكر الديني، وإصلاح الشأن الديني، ونقض التطرف الديني حسبها) بأكمله إلى أجهزة الدولة الرسمية الدينية منها والتحديثية القسرية (الإصلاح من فوق وبالإكراه والتوجيه العمودي النازل)، بحيث أصبحت قضية الحركات الإسلامية بمختلف تشكيلاتها ومرجعياتها ومناهجها، في طليعة انشغالات أجهزة وزارة الداخلية وبالتحديد أصبحت حصرا على قوى الأمن الداخلي والخارجي وحدها، وفي سياق دولي داعم لخيارات الدولة الرسمية ومواجه لذات الحركات والمتحفز لنداءات التحديث القهري في حركة مضادة لتطلعات المجتمع صوب التحرر والانعتاق من قوى الاستبداد المتحالف مع الاستعمار وقوى الإلحاق الحضاري، متصورين أن قوى القمع السلطوي ذات النزوع الامنوقراطي قادرة على تحقيق حل جذري من شأنه القضاء على جميع صور الغلو والتطرف المتمترس دينيا والمتحصن مجتمعيا، والتصفية المادية والجسدية للجماعات المعبرة عن هذا الغلو المدعو دينيا، وذلك التطرف الموصوف سياسيا والمتجلي حركيا، ووجدت في ذلك حليفا طبيعيا وطن لما يمكن توصيفه بخطاب التطرف الاستئصالي العلماني العنيد المتمترس وراء الدولة وأجهزتها السلطوية وقفازاتها الفولاذية، ونسيت تلك الأطراف جميعا، وفق التحالف المتشكل باستهداف النقيض الفكري ومجابهة غير متكافئة للخصم الاديديولوجي، أنها إزاء أنساق فكرية ومواقف سياسية ومفاهيم دينية ترسخت عبر قرون عديدة ومديدة، وتحتاج إلى مراجعة شجاعة ناقدة، تصدر عن مسئولية فكرية وفقهية يمتنع معها السكوت والصمت والتقاعس عن أداء شهادة الحق «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه».. ويحمل هذه المسئولية اليوم كل المؤمنين بالله المخلصين الحريصين على مرضاته والحريصين كذلك على استقرار الأمن في ربوع بلده وتعزيز الحرية في مجتمعنا المغربي على امتداد ساحاته، وفي مقدمة هؤلاء علماء الأمة ونخبتها المثقفة ذات التأثير على العقل الجمعي وعلى الوجدان الجماعي.. ذلك أن العقيدة والفكر تسبقان في الأهمية وفي التراتب الزمني كل حركة تسعى إلى تحقيق مقاصد الأمة ونظامها القانوني ومنظومتها الأخلاقية.
ونؤكد أن الأمر يتجاوز مشكلة “الخطاب الديني” أو “الخطاب العلماني” ليمتد إلى “المفاهيم الدينية والرؤى السياسية” السائدة في مجتمع لا يحب أكثر أبنائه القراءة، ولا يعرفون الحوار الجاد الذي يقوم على منهج علمي صادر عن الثقة بالعقل وقدرته على استقراء السنن والنواميس التي تحكم مسيرة التاريخ الإنساني، وهو ما عبرت عنه الآية القرآنية الكريمة “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.
ولما كان مجتمعنا، ومعه ومن حوله سائر المجتمعات العربية والإسلامية، يواجه حالة انتعاش فكرى تساندها همة نفسية عالية واحتشاد غير مسبوق للقوى الداعية إلى التغيير، خروجا من الأزمة، وانطلاقا إلى النهضة، فإن ما نحتاجه يصدق عليه وصف الثورة الفكرية والدينية والسياسية، باعتبارها دعوة إلى تغيير جذري موصول الحلقات خروجا من الأزمة التي نعيشها، وهو خروج نطرق به أبواب النهضة والتقدم.. نحن ــ إذن ــ نحتاج إلى ثورتين سلميتين :
-أولاهما ثورة في المفاهيم السياسية السائدة، التي ترسم معالم العلاقة بين الشعوب والمؤسسات الحاكمة في ظل مفاهيم سياسية تدور حول سيادة الشعب، وقدسية الحرية، والإيمان بدورها في تحقيق النهضة، كما تعتمد في حركتها على إعلاء سيادة القانون، وهى سيادة تقوم على مساواة المواطنين جميعا أمام القانون وحمايتهم ومساواتهم في التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات.
-أما الثورة الأخرى التي نحتاج إليها للخروج من الأزمة، فهي ثورة في المفاهيم الفكرية والدينية السائدة، والتي طبعها طابع “الجمود على الموجود” والفزع من كل دعوة للتجديد والاحتماء بعزلة أو تباعد عن سائر الحركات التي تقوم على الاندماج في تيار الإصلاح العالمي والإقليمي الذي صار يضم أكثر شعوب العالم المعاصر، يتبادل معها الخبرة، ويوظف تعدد الرؤى العقائدية السائدة توظيفا تستفيد منه جميع الأمم والشعوب.
انه ومع كل اقتراب المواعيد المؤرخة للتنافسيات السياسية والصراعات الفكرية واستعراضات القوى التنظيمية والكيانية الحزبية والمحددة في الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية السياسية والنقابية التمثيلية، ومع اصطفاف عشرات من الأحزاب وقيامها، بغض النظر عن منسوب تمثيليتها الشعبية وامتدادها الجماهيري وانتسابها النخبوي، وبالرغم من ظهور العديد من التحالفات والائتلافات بين الأحزاب والجماعات والحركات الاجتماعية والفئوية المعبرة عن أطياف ورؤى سياسية مختلفة، ومع خوفنا الشديد من أن يلقي هذا الجو الانتخابي الاستهلاكي بظلاله الكثيفة التي نخشى أن تحجب ما بدأت به موجات الربيع العربي الثوري الديمقراطي من توجه نحو التوافقية والتساند والتحالف الموضوعي في صيغة كثلة تاريخية حماية للأهداف التغييرية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها تلك الثورات ومنطق الحراك الشعبي، وهى مقاومة الظلم والاستبداد والفساد والريع والمطالبة بإقرار الحرية والعدل الاجتماعي، وسيادة القانون.
 رابعا ــ مراجعة نقدية لنسق المفاهيم السياسية السائدة وبناء بديل لها، انجاز ثورة على مستوى العقل السياسي  :
أ-إن الثورة في المفاهيم السياسية تحتل ــ بالضرورة ــ مكان الصدارة والأولوية، ولذلك رأينا أن نبدأ بها، وأن نثنى ــ بعد ذلك ــ بحديث أكثر تفصيلا نحاول به إجهاض تيار “الاستقطاب الديني العلماني “الذي يهدد استمراره وتصاعده مسيرة الحراك الديمقراطي بجوانبها التنويرية والنهضوية والحضارية في أبعادها كلها.
وهذه الثورة المفاهيمية والنسقية تتناول ثلاثة مفاهيم كبرى تمثل الأركان الأساسية للحياة السياسية الديمقراطية أي حياة  سياسية وديمقراطية بالضرورة والطبيعة .. وهي:
1ــ تحديد صاحب السيادة في المجتمع والدولة المغربيين، والعمل على تحقيق هذه السيادة في سائر البنيان السياسي القائم داخل الدولة ومؤسساتها والمجتمع ومكوناته ونسيجه .
2ــ إعادة التربية الاجتماعية والتنشئة السياسية لأفراد المجتمع، وتجمعاته المختلفة، على الإيمان بالحرية والوعي بدورها المركزي في تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي وفي ضمان تحقيق “التنمية المستدامة للمجتمع” وتوطين عشقها وغرس فسائلها وتبيئة معانيها وتكييف عطاءاتها وتسييج غراسها وتفكيك البنيات المضادة لحياتها واستدامتها.
3ــ إعلاء سيادة القانون وبناء دولته السيدة على المجموع ذات المرجعية المتعالية عن النزاعات والنزوات والنزعات العرقية والمناطقية والجنسية والموصولة بالحق في المعمار المواطني النافي لتشخصن الدولة في الحاكم ، وتنظيم الآليات التي تكفل تحقيق تلك السيادة بأبعادها المختلفة وساحاتها العديدة.
ب-أما الثورة الأخرى التي نحتاج إليها، وهى الثورة في المفاهيم الدينية السائدة، فتضم سبعة أمور نتناولها بالشرح والتحليل واحدة بعد أخرى، واضعين النقط في شأنها فوق حروب سبعة هذا بيانها:
1ــ حسم قضية المرجعية الفكرية للدولة ودور العقل البشرى في إدارة شئون المجتمع (حدود النسبية والمطلق في التدبير السياسي للشأن المجتمعي العام)، جنبا إلى جنب مع النصوص المرجعية الحضارية الجامعة للأمة بمصادرها الصريحة والصحيحة والمعتبرة، وهي في الإسلام “كتاب الله المطلق وسنة نبيه المعصوم “وسيرته التي تترجمها مواقفه العملية القاطعة في المناسبات التي امتلأت بها حياته، والتي تشكل جميعها أسوة حسنة ينتفع بها جميع الناس كنموذج مرجعي للبناء الحياتي والدينامية الانجازية للمشروع الرسالي في أبعاده التحررية والتحريرية، حتى يرفع التناقض الموهوم بين صحيح العقل وصريح النقل، وهي قضية شغلت نخب الأمة من علمائها قديما وحديثا، ولكننا ــ في موجة الابتعاد عن مراجعة هذا التراث العامر بالحكمة والتجربة ــ أهملنا هذا التاريخ المؤسس الطويل الموثق والمحفوظ.
2ــ إعادة بناء النظر المقاصدي الكلي : إن الإسلام نظام للحياة، مبني على ظواهرها، محكوم بنواميسها، مردودة أحكامه إلى العلل المنضبطة التي تدركها العقول، وهذه الأحكام تدور كلها مع تلك العلل ولا تنفصل عنها، ولو انفصلت لذهبت الرحمة وسقط العدل واستحال التكليف.
3ــ إعمال العقل النسقي الاجتهادي الديناميكي: إن إقامة الإسلام في عصرنا واستئنافه للريادة الإبداعية تحتاج إل”اجتهاد عقلي كبير”، ذلك أن النصوص ــ قرآنا وسنة ــ محدودة متناهية، والحوادث متجددة وغير متناهية، وإذا كانت حركة الزمن سنة من سنن الله فإن حركة التشريع لملاقاة تلك السنة أمر من أوامر الله، وخلود الشريعة مستمد من قدرتها على ذلك التجاوب وتلك الملاقاة وذلك الاندراج في روح العصر.
4ــ الجرأة في الفرز النقدي للتراث الديني والفكري والسياسي السلطاني: إن ما اصطلحنا على تسميته “بالتراث” يحتاج إلى ضبط وتحديد لبيان مكوناته، ووزن دقيق لموقعها من الإسلام النسقي والمرجعي، وموقع الإسلام منها، إننا نحتاج إلى توثيق هذا التراث ونقده، وإلى فرز لعناصره، وإلى تجاوزه بعضها ــ وفق منهج واضح منضبط ــ في كثير من الحالات، لنعرف ما يعد منه إسلاما وما يعد من أحوال الناس وتغير ظروف الزمان والمكان والأحوال وما يعد عائقا أمام التقدم .
5ــ بين الشمولية المنهجية والواقعية الحضارية في منطق الإصلاح ومنطلقه: إن شمولية الإسلام بحكم وحدة مصدره وترابط قيمه وأحكامه وكذلك بحكم وحدة الكيان الإنساني الذي يتعامل معه، كل ذلك يجعل منه دينا ودولة وعقيدة ونظاما، ولكنه لا يعنى ــ بالضرورة ــ أنه فَصَلَّ أحكام بناء الدولة والمجتمع وبين دقائق النظام الاقتصادي الذي حدد معالمه الكبرى على سبيل المثال .
6ــ سعة العيش ورحابة الحياة لا ضيق الصراع ومحدودية الأفق: الإسلام لا يضع أصحابه وأتباعه في صراع مع الحياة، والمسلم السوي لا يكره الدنيا والناس، ولا يقضى عمره ويبذل جهده في معركة وهمية مع قوانينها ونواميسها.
7ــ التموقع في سياق التدافع الفاعل لا الانسحاب الخامل: والمسلمون على امتداد التاريخ لا يملكون مطلقاَ أن ينسحبوا من ساحة الصراع الاجتماعي والتدافع السياسي الدائر حولهم بين قوى التقدم والعدل وقوى الظلم والقهر والاستغلال والتأخر.
خامسا: معالم في التحول على مستوى بنيات الثقافة السياسية والفكرية السائدة، مهام عاجلة بين الانجاز والاستشراف :
 سنحاول -تاليا -أن نقف عند معالم “الثورة الثقافية المنشودة والمأمولة في الميدان السياسي “حتى نزيح عن الفكر السائد ما تراكم فيه من مفاهيم وقيم سلبية تم زرعها وتأصيلها في عصور الجمود والتأخر التاريخيين، والمبالغة في تقرير السلطة المطلقة للحكام على حساب الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.
إن حديثنا السالف عن ضرورة انجاز “ثورة سلمية لتصحيح المفاهيم السياسية والفكرية في الثقافة السائدة لدى النخبة ولدى الجمهور على حد السواء” تكافئ ثورات العرب السياسية التي استهدفت تبديل البنى السياسية التحتية للنظم السلطوية، وهذا التصحيح الرؤيوي على مستوى الأنساق الفكرية والسياسية الحاكمة والذي لا يستغنى عنه لتحقيق التغيير السياسي الجوهري الذي نادت به ثورات الربيع العربي الديمقراطي برمتها وفي عمق ديناميكيتها، يقتضي الجرأة في الطرح والمغامرة في الانجاز والنقد الجذري في الأسلوب، وبغير تحديد هذا الطرح المنهجي وبغير تحديد عناصر هذه الانتفاضة السياسية الديمقراطية وإصلاحها إصلاحا جذريا فكريا، ستتعرض عملية التغيير برمتها للضياع والانتكاس في المستقبل لا قدر الله، باعتبار أن التغيير على مستوى البنى الفوقية الفكرية والمفاهيمية وعلى مستوى الوعي الجماهيري العام يعد مهمة عاجلة وملحة تكافئ بل تضاهي ما تم الإقدام على إنجازه لحد الساعة على صعيد الربيع الثوري الديمقراطي .
أ- والمفاهيم الكبرى الأساسية التي تتكون منها “الثقافة السياسية” للمجتمع الديمقراطي النموذجي مفاهيم ثلاثة هي:
1ــ الديمقراطية والمشاركة السياسية الشعبية لمجموع المواطنين أو عقد المواطنية.
2 ــ سيادة القانون وما تقتضيه من إقامة العدل، وتحقيق المساواة.
3ــ الاعتراف بحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة بعضهم البعض وفي مواجهة سلطان الحكم في الجماعة الوطنية، واعتبار هذه الحريات هي الأصل القانوني والسياسي العام، واعتبار القيود عليها مجرد استثناءات تمليها الضرورة في أضيق الحدود (وهو أصل يستند إلى أن إطلاق حريات الأفراد وفي مقدمتها حريتهم في الاعتقاد والتعبير، يعد مقدمة ضرورية لتعظيم منافع الحياة السياسية المنظمة وتقليل الآثار السياسية السلبية لحكم الفرد واستبداده).
أولا: الديمقراطية والمشاركة السياسية وعقد المواطنة:
ودون إطالة أو تحليل نظري مديد نبادر فنقرر أن ممارسة الديمقراطية وتحقيق المشاركة الفعالة والجدية لجموع المواطنين في اتخاذ جميع القرارات التي تمس مصالح أفراد الجماعة الوطنية تجلي حيوي ومنطقي يتفرع عن اعتبار الشعب صاحب السيادة واعتبار الحكام، أفرادا ومؤسسات، مفوضين من جانب الشعب لإدارة شئون الجماعة تحت رقابته وسلطانه وهم بهذا الاعتبار أُجراءُ عنده.
ثم إن هذه المشاركة حين يتم تنظيمها.. هي الضمان الأكبر لترشيد القرارات السياسية والاجتماعية عن طريق النشاط المنظم لمؤسسات المجتمع السياسية والتشريعية والتنفيذية، وإبعاد المجتمع والدولة من الاستبداد السياسي وتركز القرار لدى القلة واستئثارها بتدبير الشأن العام .
وأول ما يتمثل في المشاركة الشعبية حق الشعب في إقرار التشريعات التي تنظم الحياة العامة ووضع ضوابطها الملزمة للحكام والمحكومين، وعلى رأس هذه التشريعات “الدستور” الذي يبين هيكل السلطة ويحدد المؤسسات المختلفة التي تدير أمور الجماعة، بتفويض من الشعب صاحب السيادة، وتوصف هذه السلطة التي تتولى وضع الدستور بأنها السلطة التأسيسية Pouvoir Constituant تمييزا لها عن السلطات التي تنشئها نصوص الدستور والتي تعتبر هيئات “مؤسَّسَة (بفتح السين)”، كما تمثل ــ بعد ذلك ــ في وضع التشريعات التي تفصل ما أجمله الدستور”القوانين التنظيمية “، وحقه في متابعة نشاط السلطة التنفيذية التي يتعامل معها أفراد الشعب في حياتهم اليومية والمنبثقة حكما من اختيارهم واقتراعهم العام التفويضي. كما تشمل أخيرا حق الأفراد في الالتجاء إلى القضاء المستقل عن سائر السلطات، لتصحيح ما قد تقع فيه السلطة التشريعية أو إحدى الجهات الإدارية المكونة للسلطة التنفيذية من خروج على حدودها الدستورية “القضاء الإداري”، كما تشمل حق الأفراد في طلب التعويض المادي والأدبي عما عساه يلحق هؤلاء الأفراد من أضرار مترتبة على هذا الخروج.
والآليات الأساسية والفعالة لوضع المشاركة الشعبية موضع التطبيق العملي تشمل عدة أمور أهمها:
1ــ بناء نظام انتخابي يكفل وصول الأفراد والجماعات إلى صناديق الانتخاب والاستفتاء، وممارسة حرية الاختيار والإدلاء بالرأي في البدائل المطروحة، بعيدا عن كل صور التدخل من هيئات الحكم في سير عملية الانتخاب أو سعيا إلى التحكم في نتيجتها، ترغيبا أو ترهيبا أو تزويرا سافرا أو مستترا لإدارة الناخبين واختيارهم.. ومن هنا كانت الرقابة القضائية على العملية الانتخابية وإجراءاتها في مراحلها المختلفة ضمانا أساسيا لجدية المشاركة الشعبية وفاعليتها.. بغيرها تؤول “المشاركة الشعبية” إلى شعار كاذب يجهض قاعدة الأساس التي يقوم عليها كل نظام ديمقراطي.
2 ــ لقد شهدت العقود الأخيرة تقدما ملحوظا في مدى مشاركة منظمات المجتمع المدني في الرقابة على أداء السلطات العمومية وبالتحديد في مراقبة مدى نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها، كما شهدت تقدما نسبيا موازيا في السماح لمنظمات حقوقية بمراقبة تلك الانتخابات، وإن كانت بعض النظم في المنطقة العربية لا تزال عاجزة عن فهم أسباب هذا التطور ولا تزال ــ لذلك ــ ممتنعة عن قبوله زعما بأن المراقبة الوطنية والدولية معا تمثلان تدخلا غير مقبول في الشئون الدولتية الداخلية لتلك الدول التي يراد إخضاعها لتلك الرقابة، وهو اعتراض نتوقع زواله في مستقبل غير بعيد ــ خصوصا ــ مع انفتاح المنظومة الحقوقية الدولية في إطار ميزان القوى الجديد قيد التشكل والمتجه صوب الاتفاق على أن تكون هذه الرقابة السياسية متبادلة يتم التراضي عليها في إطار اتفاقات دولية ثنائية أو جماعية.
ثانيا: سيادة القانون وسمو الدستور:
وإذا كان القانون الذي تقوم الممارسة الديمقراطية على سيادته وإنفاذ مضمونه هو ــ وفقا للتعريف المستقر في سائر النظم السياسية والدستورية “مجموعة القواعد المجردة التي تنظم العلاقات بين الأفراد والمؤسسات المختلفة التي تمارس السلطة داخل المجتمع”، فإن دولة القانون والحق هي تلك التي تكون الحكومة فيها “حكومة قانون لا حكومة أشخاص تعلو إرادتهم على إرادة المشرع وما تقرره القوانين”، وهو المبدأ الذي عبر عنه الفقه الدستوري في كثير من الدول الحديثة بأن النظام الديمقراطي لا تكتمل أركانه الأساسية إلا إذا كانت الحكومة، قانونا وفعلا حكومة تخضع جميع قراراتها وتصرفاتها لقواعد قانونية مقررة سلفا بعيدا عن مشيئة من يتصادف شغلهم لمواقع السلطة السياسية في الجماعة.
ومن العناصر الأساسية الضامنة لسيادة القانون أن يكون مضمون القانون محققا لحد أدنى من الاستقرار والثبات في حياة الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم، فلا يفاجئهم التشريع بقواعد لم تكن قائمة ولا متوقعة وقت تصرفهم.. وإذا كان التعبير القانوني لهذا المبدأ هو ما يسميه التشريع والفقه “مبدأ عدم رجعية القانون”، فإن التسمية السياسية الدقيقة له ألا يصدر القانون مفاجئا للمخاطبين به، وأن يكون هؤلاء المخاطبون “متوقعين” للقاعدة القانونية وقادرين على ترتيب أوضاعهم وتنظيم مستقبلهم على أساسها وإلا اختل نظام المجتمع كله وصارت علاقة الأفراد بالقانون ونظرتهم إليه أشبه بنظرة “الطير للصائد منها بنظرة الجندي القائد”، ومن الضروري أن ننبه إلى أن هذا العنصر المهم من عناصر سيادة القانون يقتضي ــ على سبيل المثال ــ أن يمتد الالتزام به إلى السلطة القضائية وهي تنظر في طلبات فسخ العقود أو إبطالها، وأن تلتفت إلى أن مفاجأة أصحاب المشروعات وأصحاب الحقوق بإبطال عقود وتصرفات مضت على إبرامها والعمل بنصوصها سنوات طويلة نتيجته اللازمة أن يهتز كيانهم الاقتصادي، وأن تحيط بهم قيود ومحاذير توقعهم في شباك منصوبة وهم يرون ما بنوه في سنوات في ظل أوضاع وضوابط تشريعية موضوعية أو إجرائية ينهار أمام أعينهم انهيارا بتجاوزهم إلى مئات وآلاف ممن تعاملوا معهم وارتبطوا بهم، وهذا كله هو ما يعبر عنه في الفقهين الدستوري والقانوني بمبدأ ضرورة إمكان التوقع في التعامل مع القوانين.
 ويستمر نظر الدارسين للقانون الدستوري المقارن أن هذا المبدأ الأساسي العام مبدأ سيادة القانون قد عبر عنه في إطار مرجعيتنا الحضارية الجامعة قول الله تعالى مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وسلم) “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”، وهو ما يعنى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكل حاكم من بعده يكشف بما يصدره من قرارات عن القواعد القانونية الملزمة للأفراد، ولا ينشئها من عنده، وأكدت آيات قرآنية أخرى هذا المبدأ الدستوري بقوله تعالى “من يطع الرسول فقد أطاع الله”، كما يبلغ الوضوح في إقرار هذا المبدأ “الجوهري” ما يشير إلى أن الحاكم وإن كان له دور في التشريع، فإنه يظل ــ طوال الوقت ــ ملتزما بطاعة هذا التشريع وتنفيذ أحكامه، شأنه في ذلك شأن سائر الناس الذين يتوجه إليهم التشريع بالخطاب الملزم ذلك “ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين”. سورة الحاقة الآيات من 44 إلى 46.
ويتفرع عن سيادة القانون ويرتبط بها ارتباطا وثيقا مبدأ آخر مؤداه “توفير المعاملة القانونية والفعلية المتماثلة للأوضاع المتماثلة بحيث يمتنع التمييز ــ أي تمييز ــ بين أصحاب تلك الأوضاع المتماثلة”، وهو المعنى الذي عبر عنه الفقه الدستوري والقانوني في كثير من الدول بمبدأ “الحماية القانونية المتكافئة”، وهو ما يترتب عليه بطلان أي تمييز قانوني أو فعلى يستند إلى ما يخالف “أصل المساواة بين جميع أفراد البشر” ومن قبيله إقامة التفرقة والتمييز على أساس من الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة”.
وهذا التفسير الواضح لمبدأ سيادة القانون يتممه ما استقر عليه الفقه والقضاء في أكثر الدول الديمقراطية المعاصرة من أن القيمة الحقيقية لهذا المبدأ الذي يعبر عنه بمبدأ “المشروعية” أو خضوع جميع أعمال الدولة ومؤسساتها للقانون، هذه القيمة لا تتحقق ولا تكتمل إلا إذا قامت على إنفاذها والتحقق من احترامها سلطة قضائية مستقلة ترد كل محاولة للخروج على أحكام القانون ومضمون قواعده.
والواقع أن هناك علاقة تأثير وتأثر متبادلين بين العناصر الثلاثة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي وهى: مبدأ المشاركة الشعبية ومبدأ سيادة القانون، ومبدأ توفير الحقوق والحريات وما يحيط به من ضمانات تعزز الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، فإذا غابت الديمقراطية أو أجهضت بتزوير الانتخابات أو تزييف إرادة الناخبين وحريتهم بالضغط عليهم ترغيبا أو ترهيبا وإذا جرى تمييز قانوني أو فقهي غير جائز تعذر قيام سيادة القانون بعناصرها التي عددناها، ووجدت السلطة التنفيذية مداخل وثغرات تدخل منها إلى فرض إرادتها على أفراد المجتمع جميعا.
 ثالثا: دور “الحريات” في تحقيق النهضة الحضارية للأمة ومصالحة الدولة مع المجتمع:
أما العنصر أو المكون الثالث للنظام الديمقراطي فهو تصحيح النظر إلى دور “الحريات” في تحقيق نهضة المجتمع، وتوظيف علاقات التنافس والتدافع بين مؤسسات الدولة وأفراد المجتمع لتحقيق تلك النهضة التي يتحقق بها في النهاية تقدم المجتمع كله.
ومن الأمانة الواجبة أن نقرر أن الثقافة السياسية السائدة في أكثر الدول العربية والإسلامية لم تلتفت إلى أهمية الدور الذي تلعبه الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الاعتقاد وما يتبعها من حرية التعبير في تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعيين فضلا عن تحقيق التنمية بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
نعم.. إن خطاب أكثر الحكام والساسة والأكاديميين وقادة الأحزاب والجماعات السياسية في العالم العربي كله لم يخل أبدا من عبارات تدعى الانحياز للحرية ولسيادة القانون بصورها المختلفة، ولكن الممارسات العملية، والوجدان الجماعي في تلك الدول ظل ــ معظم الوقت ــ مكتفيا بإعلان هذا الانحياز دون أن يترجمه إلى مواقف عملية من شأنها أن تحقق ثمراته الكبرى النافعة بل إن سنوات القهر والاستبداد التي وضعت كثيرا من الحكام في مقام التقديس والارتفاع فوق كل صور المساءلة قد دفعت كثيرا من المحكومين إلى حالة من حالات الدفاع عن النفس، عن طريق نفاق أولئك الحكام والأعضاء عن خطاياهم وأخطائهم، فسكتوا مضطرين عن كشف الظلم الذي تعرض له آلاف منهم كما سكتوا عن نقد سياسات كان مقطوعا أنها تفسد المجتمع وتغتال فرصته في التقدم وتحقيق النهضة.. كما تؤجج نيران الاستقطاب الحاد بين فئاته المختلفة. وعلى الساحة الدولية أدى هذا كله إلى تهميش دور المغرب وتراجعه في العوالم الثلاثة التي تنتمي إليها.. العالم العربي والعالم الإسلامي والقارة الأفريقية.. وآن لنا جميعا أن ندرك أن هذه النتائج الكارثية ترتبط ارتباط مباشرا بإهدار قيمة الحرية وتجاهل وظيفتها في ترشيد حركية المجتمع نحو مزيد من النهضة والتقدم في ظل نظام سياسي قانوني ثابت الجذور ينزل على حكمه جميع الحكام والمحكومين.

 *باحث في العلوم السياسية وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.