أكوتي يكتب : تحديات التطور التنظيمي في تجربة العدالة التنمية

مصطفى أكوتي*

في سياق الإعداد لمؤتمره السابع، المزمع تنظيمه يومي 14و15 يوليوز 2012، انكب حزب العدالة والتنمية على مدارسة جملة من القضايا؛ في هذا السياق  تم تنظيم يوم دراسي لمراجعة النظام الأساسي.  ولما طغت على ذلك اليوم المقاربة القانونية، ترمي هذه الدراسة إلى مقاربة المسألة التنظيمية من زاوية علوم الإدارة والتنظيم من أجل الكشف عن الطابع النسقي لتلك المراجعة ولبيان حدودها.

وقبل الدخول في جوهر المسألة نعرض باقتضاب النقط المركزية التي دار عليها النقاش في اليوم الدراسي الذي خصص لمراجعة النظام الأساسي، شملت تلك النقط ما يلي:
مراجعة نظام العضوية لتجاوز بطء النمو العضوي للتنظيم (المركز الإجرائي) ؛
الفصل بين السلطات: التنفيذية والرقابية والقضائية؛
بنية القيادة المركزية (القمة الاستراتيجية في علاقتها بالتقنوقراط)؛
اللامركزية العمودية ودعم صلاحيات المؤسسات المجالية (الخط الهرمي).
مدارسة هذه الأبعاد يتطلب التذكير بالإشكالية الجوهرية للتنظيم والتي تقوم بالعلاقة الجدلية الموجودة بين مفهومين أساسيين: تقسيم العمل والتنسيق. فالتطور التنظيمي يتحقق بتطوير آليات التنسيق لمجاراة تطور تقسيم العمل الذي يقتضيه إنجاز مهام أكثر تعقيدا. فآليات التنسيق المتطورة هي التي تتيح التحكم في معادلة  الضبط والتطور في التنظيم؛ أما آليات التنسيق المتخلفة فتحقق الضبط على حساب حركة تطور التنظيم. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار أن التطور التنظيمي يتحقق من خلال المعالجة المطردة لمجموعة من الأزمات؛ وتنشأ الأزمة حينما لا تجاري آليات التنسيق مستوى تطور تقسيم العمل.
بالرجوع إلى مقال كلاسيكي في التنظيم، ومع بعض التصرف، نقترح أربع أزمات:
أزمة القيادة (في التنظيم الصغير)؛
أزمة الصورنة والمراقبة  : الصورنة، التخطيط، التحكم الفوقي، التجانس والتنميط؛
أزمة الاستقلالية :هيمنة التكنوقراط اتساع المشروع والحاجة إلى معارف متعددة ومتنوعة؛
أزمة المشاركة تطوير آليات الشورى و تقاسم السلطة والفصل المؤسساتي بين السلطات.

لبيان الكيفية التي تنبثق بها هذه الأزمات نحتاج إلى التطرق إلى العلاقة بين التنظيم وتطور آليات التنسيق، ومن أجل ذلك نعود إلى كتاب هنري منتزبرغ “البنية ودينامية التنظيمات” الذي عد فيه ست آليات للتنسيق وهي:
التنسيق التلقائي  : و يوجد في التنظيمات الصغيرة حيث بإمكان القائد السيطرة على المعطيات المرتبطة بالعمل بشكل عفوي و مباشر؛
الإشراف المباشر ؛
التنسيق بالتوحيد والتنميط ويتضمن ثلاثة أنواع:
التنسيق بتوحيد الكيفيات: و يتمثل في تنميط أساليب و طرق العمل ويستند إلى فرضية أن بيئة العمل مستقرة؛
التنسيق  بتوحيد الكفاءات: يقوم التنسيق بالتحكم في العمل من خلال طبيعة التكوين و درجة التكوين التي تعتبر معيارا محددا في تخصيص الموارد البشرية؛
التنسيق بتوحيد النتائج: يتوجه التنسيق إلى التركيز على الأداء و تجاوز سلبيات المراقبة القبلية ويتطلب تطوير مراقبة التدبير في بنية يتم فيها تفويض سلطة اتخاذ القرار شريطة تحقيق نتائج محددة؛

الثقافة أو التنسيق بتوحيد المعايير والقيم.

بتحليل خصائص آليات التنسيق يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام. يتميز القسم الأول، الذي يشمل الآليتين الأوليتين، باعتماده أسلوبا للتنسيق يستند إلى علاقات مشخصنة واحتكاك بشري  مباشر. أما الآليات التي تقوم بالتوحيد (آلية رقم 3و4 و5) فتعمل على ضمان تناسق الأعمال والتصرفات بعقلنة وتوحيد طريقة القيام بالعمل أو النتائج التي من المفترض الوصول إليها أو المؤهلات التي تحدد مايقوم به أعضاء التنظيم. نطلق على هذه الآليات الأخيرة التنسيق المصورن، ويواكب  اللجوء إلى هذا الأخير صعود دور التكنوقراط، الشيء الذي تقاومه القيادة التاريخية التي لا تريد أن يشاركها طرف آخر في السلطة. والشكل الأخير للتنسيق هو التأطير الثقافي والمذهبي، الشيء الذي يكشف أن القيادة التي تريد أن تنسق أعمال تنظيم في مرحلة قيادة  المجتمع تنبني أساسا على القدرة على صياغة المعنى وتعميمه وليس على التدبير التنظيمي والإداري. 

لفهم تطور آليات التنسيق ننطلق من الشكل التنظيمي الذي اقترحه هنري منتزبرغ والذي يتيح رصد ذلك التطور من من خلال التحولات التي تمس شبكة العلاقات بين مكونات البنية:
القيادة  الإستراتيجية؛
وظائف الدعم؛
التكنوقراط؛
الخط الهرمي؛
المركز الإجرائي.

مجموع هذه المكونات تعطينا بنية بهذا الشكل:

اللامركزية العمودية

بعد هذا العرض المفاهيمي يمكن الرجوع إلى الإشكالات التنظيمية التي أفرزها اليوم الدراسي حول النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية لاستخراج دلالاتها وأبعادها، وسنبدأ بآخرها أي  اللامركزية العمودية والتي تقتضي توسيع صلاحيات الهيئات المجالية أي تخلي القمة الإستراتيجية عن جزء كبير من صلاحياتها للهيئات المجالية الموجودة على طول الخط الهرمي.

طبقا لما أشرنا إليه سلفا يمكن اعتبار أن مطلب اللامركزية العمودية يعكس أزمة الاستقلالية أي أن الهيئات المجالية تكون خاضعة من قبل لهيمنة قوية للمركز. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو ما إذا كانت هذه الهيئات المجالية تعاني حقا من هذه الهيمنة المطبقة للمركز على أدائها. والجواب الذي سيعبر عنه الكثير هو لا بالتاكيد، لأن المركز فيما مضى بقي متمحورا على ذاته والدليل هو أن التقارير المركزية الأدبية والمالية لم تكن سوى تقارير عن المركز فحسب ولا تغطي الحزب ومؤسساته على المستوى الوطني وذلك ما دفع بالمجلس الأعلى للحسابات إلى تذكير قيادة الحزب بان التقرير المالي يجب أن يشمل كل مالية الحزب وليس فقط ماليته المركزية. وبالتالي فإن تقوية صلاحيات الهيئات المجالية لا يمكن النظر إليه باعتباره مطلبا للاستقلالية ولكنه مطلب لملء فراغ في الصلاحيات وفقرا مدقعا في الموارد المالية وكذا البشرية، بحيث يمكن وصف الوضع السابق بأن الهيئات المجالية (خاصة الجهوية) كانت معلقة في فراغ وبدون صلاحيات ولا موارد حقيقية. وعليه فإن اللامركزية العمودية ستولد مأزقا بالنسبة للمركز الذي لم يطور الكفايات التنظيمية لاستيعاب وتوجيه حركة الهيئات المجالية. والسؤال المطروح هو لماذا لم يحقق هذا التطور فيما مضى؟

اللامركزية الأفقية شرط تحقق اللامركزية العمودية

يقودنا السؤال الأخير إلى الإشكال الثالث والثاني الذي أفرزهما اليوم الدراسي ألا وهو ضيق بنية القيادة المركزية والتحفظ اتجاه الفصل بين السلطات، ويتعلق هذان العنصران بأزمة الصورنة والمراقبة. تفترض اللامركزية العمودية أن بإمكان المركز ضبط حركة الهيئات المجالية مع توسيع صلاحيتها وتقوية سلطاتها، لكن ذلك غير ممكن إلا إذا كان التنظيم قد اجتاز أزمة الصورنة والمراقبة من خلال إيجاد لجن وهيئات مركزية قوية داعمة للقمة الاستراتيجية، وهو ما يعني أن هذه الأخيرة تخلت على جزء كبير من السلطة لصالح التكنوقراط ووظائف الدعم. فهل تحقق ذلك في فعلا في تجربة العدالة والتنمية.

يتخذ هذا المشكل تعبيرات عديدة منها قلة الأطر القيادية. ولو تأملنا مليا  في مشكلة قلة الأطر هذه لوجدنا أنها سبب لأسلوب في القيادة يعتمد على التنسيق المشخصن (الآليتين 1و2) بدل الانتقال إلى التنسيق المصورن (الآليات 3و5و5). وهذا المشكل مطروح في كل التنظيمات بما فيها المقاولات. فالخصائص العامة للقيادة التاريخية غالبا ما تتشكل في مرحلة التأسيس حين يكون التنظيم صغيرا وبالتالي تتمرس على آليات التنسيق المشخصن وتبقى سجينة له الشيء الذي يحول دون انتقال التنظيم إلى التنسيق المصورن. لذلك، لا غرابة أن تجد أن هناك من  يستهزئ بالتقنيات الإدارية الحديثة سواء تعلق الأمر بالتخطيط أو التسويق، فكل ذلك لا يشكل، في نظره، سوى حذلقة فارغة.  

يتجلى التنسيق المصورن في أمرين : التخطيط والمساطر. يتطلب التخطيط وجود هيئة مركزية يعهد إليها بإعداد المخطط وتنزيله ورصد وتحليل نتائجه، وتكشف التجربة على أن وظيفة التخطيط بقيت حبرا على ورق.  أما صياغة المساطر فتقتضي الفصل بين السلطات بحيث يتولى المجلس الوطني عملية التشريع أي صياغة المساطر وتتولى هيئة التحكيم النظر في ما مدى التزام الهيئات والأفراد بها. ضدا على هذا المنطق، اتسمت التجربة السابقة بالتحكم في عملية المساطر والمواقف المتحفظة اتجاه الفصل بين السلطات وضعف عملية التخطيط. فعملية صياغة المساطر بقيت مجالا متحكما فيه، بنسبة كبيرة، من طرف القيادة التنفيذية. كما لا يمكن النظر، إلى ما جاء في النظام الأساسي المقترح من أن المجلس الوطني هيئة انضباطية، إلا باعتباره استمرارا للمواقف التي لا تريد أن يتحقق فصل حقيقي بين السلطات، إذ  لا يمكن، بمنطق القانون، أن تجمع هيئة ما بين سلطتي التشريع والقضاء؛ وهذا الموقف العجيب يكشف عن رغبة البعض الحد من سلطة هيئة التحكيم بناء على التجربة السابقة من خلال تعويم قراراتها  ضمن الكم الهائل لأعضاء المجلس الوطني؛ أما إذا شكل المجلس الوطني أو مكتبه لجنة لمراجعة قرارات هيئة التحكيم فإن ذلك سينطوي على مفارقة عجيبة مفادها تخويل لجنة أقل سلطة بمراجعة هيئة أعلى منها سلطة وبذلك سنصبح أمام هيئات للتحكيم مؤقتة ومشكلة وفق حسابات ما. وليس هذا الأمر سوى مثال على موقف صلب لدى البعض برفض الفصل بين السلطات وتعزيز مكانة السلطة التنفيذية على حساب السلطات الأخرى؛ وفي نفس السياق يندرج أيضا عدم التنصيص على التنافي في الانتماء إلى مختلف السلطات.

تعكس الأمثلة التي أشرنا إليها إلى العوائق التي تحول دون انتقال التنظيم إلى التنسيق المصورن، لكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو ما السبب الذي يغذي المقاومة المناهضة لهذا الأسلوب في التنسيق؟  يكمن السبب في أن هذا الأخير  يشكل إحراجا  للنموذج المعرفي الذي تشكل خلال المراحل الأولى للتنظيم، فهو ينطوي على تحد  للقيادة المركزية (القمة الإستراتيجية) التي تجد نفسها في وضعية ملغزة، فهي تحتاج إلى خبرة التكنوقراط لتنظيم طريقة عملها ولضبط حركة التنظيم، لكنها لا تقبل بأن تتخلى لهم عن جزء من السلطة. لذا تجد القيادة التاريخية نفسها في وضع متأرجح بين الحاجة للتكنوقراط وبين التخوف من تصاعد نفوذهم.

وعيا منه بهذه المشكلة وبالصعوبات التي لاقها عمل التكنوقراط فيما سبق طرح البعض مقترحات شملت توسيع لائحة أعضاء الأمانة العامة بإدراج عدد كبير من الأعضاء بالصفة، غير أننا نود التنبيه إلى أن هذا الحل غير كاف، إذ إن نجاح هذه التجربة الجديدة رهين بمدى قوة وتماسك عمل اللجان الداعمة لعمل الأمانة العامة. وبدون تحقق هذا الشرط لن يتغير الأمر كثيرا. فالمسألة لا تطرح داخل الأمانة العامة فقط، ولكن تطرح، بالدرجة الأولى، على مستوى علاقتها باللجان الداعمة لها.

وتجدر الإشارة في هذا المقام أيضا إلى المحظور الذي قد يؤدي إليه استحداث الإدارة العامة بغية الفصل بين القيادة السياسية والقيادة الإدارية،  قد يقود هذا الفصل إلى ترهل العلاقة الجدلية بين السياسي والتنظيمي، الشيء الذي قد يعمق وضعا قائما تمثل في ضعف تفاعل التنظيم مع التحديات السياسية، وقد سبق للأمين العام للحزب السيد بنكيران أن أقر بوجوده  حين وافق ما طرحه الأخ زويتن في اليوم الدراسي الذي خصص لمدارسة الأطروحة السياسية.

نصل في النهاية إلى الإشكال الأخير الذي طرح في اليوم الدراسي ويتعلق الأمر بالعضوية وهو مرتبط بالمركز الإجرائي. وقد كان من جملة ما طرح لمعالجته اقتراح أشكال جديدة تفرغ العضوية من مضمونها فكان العلاج من جنس المشكلة. لكن النظام الأساسي المقترح لم يتضمن أي تعديل ذي بال في هذا المجال. غير أننا نود أن ننبه إلى أن مشكلة العضوية ليست قانونية لأنها  تعكس إلى حد كبير مدى نجاعة التنظيم ككل. وحين لا يستطيع تنظيم ما أن يتمدد، فذلك يعني أن أمورا كثيرة غير سليمة. وهذه الأمور لها علاقة مباشرة بالمركز الإجرائي أي العمل المحلي في أدنى مستوياته ولها علاقة، غير مباشرة، بمختلف القضايا التي أشرنا إليها سلفا من قبيل التخطيط وتوزيع الصلاحيات والمساطر والعلاقات العمودية وغير ذلك. ولتسليط بعض الضوء على ذلك يمكن القول بأن العمل المحلي غير معقلن الشيء الذي يجعله  خاضعا بدرجة كبيرة للقيادات المحلية التي قد يلجأ بعضها إلى التعاطي مع العضوية بعقلية يغلب عليها الضبط وأحيانا الانتهازية.
 وللعضوية علاقة بالمخطط الذي يحدد محتوى العمل المحلي، غير أن التخطيط، باعتباره عقلنة للعمل المركزي، لا يمكن أن ينجح إذا كان العمل المحلي  غير معقلن. وتشكل الثقافة باعتبارها آخر آلية للتنسيق أحد أهم محددات العضوية، فالانخراط في أي منظمة ينطوي أساسا على حافز البحث عن المعنى، وعندما يتوقف تنظيم ما عن إنتاج المعاني النبيلة فإن ذلك يقود إلى تراجع العضوية.
لذلك وجب التحذير من أن السقوط في البيروقراطية الصماء والجافة قد يحول التنظيم الحزبي إلى ممارسة فاقدة للمعنى، كما أن بعض الممارسة الانتهازية التي تنشأ من قبيل التسابق على المواقع والمناصب قد تنتج معاني سلبية كثيرة منفرة.

وخلاصة القول هو أنه كلما تتطور التنظيم إلا وانكشفت مثالب التنسيق السلطوي ومزالق التنسيق الهندسي (الصورنة والتقعيد البيروقراطي)، فالناس لا سبيل للتحكم في تصرفاتهم بتوسل السلطة القاهرة ولا بالأدوات التقنية لأن التصرفات البشرية ذات طبيعة مزدوجة ظاهرة وباطنة؛ وإذا كان بالإمكان رؤية الظاهر وضبطه، فالباطن منفلت لا سلطان لأحد عليه. و يتصل الباطن بالقيم الموجهة لسلوك الفرد والمحددة لطريقة تعاطيه مع الناس والأشياء المحيطة به.

عضو هيئة التحكيم في العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.