المغرب..20 سنة من الإصلاح والتنمية ما بين توطيد المكتسبات ومواجهة التحديات

نوفل الناصري

تمكنت بلادنا تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، من بناء نموذجها التنموي على أسس ترسيخ البناء الديمقراطي وتعزيز النمو الاقتصادي والنهوض بالتنمية البشرية. وقد استلهم هذا النموذج التنموي ركائزه الأساسية من التوجيهات الملكية السامية، مجددا خياراته بفضل الدروس المستخلصة من نجاحاته وإخفاقاته، ومكرسا توجهاته الكبرى في المقتضيات الدستورية لسنة 2011.

تطورات السياسة التنموية المغربية

ولقد ارتكزت الخيارات الكبرى لنموذج المغرب التنموي، على جملة من الثوابت، وخضعت لعدة تعديلات قصد مواكبة التحولات السياسية والاقتصادية لبلادنا، وضمان ملائمة الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية للمملكة مع هذه التحولات، وكذا مع التطورات التي شهدها المحيط الدولي، وما رافقها من تحول في الرؤى والسياسات الاقتصادية العالمية.

وهكذا، وخلال السنوات الأولى للاستقلال تمحورت السياسة التنموية المغربية في استعادة السيادة الكاملة على الخيرات الوطنية، ونهج جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله استراتيجية للاستقلال الاقتصادي، عبر عنها آنذاك بقوله، “لن يكون للاستقلال السياسي الذي استرجعناه أي معنى إذا لم يمكنا من تحقيق استقلال اقتصادي وبنائه على أسس قوية”، وذلك عبر مجموعة من البرامج والمخططات التنموية:1960 – 1964 مخطط رباعي؛ 1965– 1968 مخطط ثلاثي؛ 1968 – 1972 مخطط خماسي؛ 1973 – 1977 مخطط رباعي؛ 1978 – 1980 مخطط ثلاثي؛ 1983 – 1987 مخطط خماسي؛

كما اعتمد المغرب سنة 1993 برنامج الأولويات الاجتماعية، الذي استهدف تطبيق استراتيجية للتنمية الاجتماعية تشمل العديد من الأقاليم الأكثر تهميشا في المملكة، هذه الاستراتيجية تألفت من ثلاث مشاريع أساسية : التعليم الأساسي، الصحة الأساسية، والإنعاش الوطني والتنسيق ومتابعة البرامج الاجتماعية.

وفي نفس السياق أقر المغرب مشروع مخطط التنمية (2000 – 2004)  الذي هدف إلى تعديل مسار التطور وآليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ووضع المغرب على السكة الصحيحة للتنمية، التي يستطيع من خلالها استغلال كل مكوناته وطاقته المادية والبشرية استغلالا عقلانيا. وقد توج هذا التوجه الاجتماعي بإعلان المغرب في 18 ماي 2005 “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” كتصور بديل وحديث لمسألة التنمية البشرية في المغرب، بالموازاة مع التنمية الاقتصادية.

ركائز الخيارات التنموي التي اعتمدها المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس  لتحقيق متطلبات الاقلاع الاقتصادي

إجمالا يمكن تحديد معالم الخيارات التنموي التي اعتمدها المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس لتعزيز الاقلاع الاقتصادي في أربعة محاور هي كالتالي:

الأولى: مواصلة تعزيز الطلب الداخلي، بمكونيه الاستهلاك والاستثمار، من خلال مواصلة دعم القدرة الشرائية وتعزيز الاستثمار العمومي والخاص.. 

ثانيا: تنويع روافد النمو بالتركيز على التصنيع وإطلاق استراتيجيات قطاعية واعدة في الصناعة والطاقات المتجددة والفلاحة والسياحة، واللوجستيك والصيد البحري والصناعة التقليدية؛ ومواصلة سياسة الأوراش الكبرى في مجال التجهيزات الأساسية من طرق وطرق سيارة وموانئ ومطارات؛ وتحسين مناخ الأعمال وتحفيز الاستثمار، هذه المجهودات  ساعدت بلادنا على تنويع الإنتاج الوطني وتطوير وتقوية الصادرات والقدرة التنافسية الخارجية، بالإضافة إلى تنويع المنافذ والأسواق خاصة دول إفريقيا جنوب الصحراء، ودول الخليج والصين وروسيا وبعض الدول الصاعدة.

ثالثا: تفعيل الإصلاحات الهيكلية والضرورية، والتي تمثل العمق الاستراتيجي للمرحلة. وتتجلى هذه الإصلاحات البنيوية في مواصلة إصلاح منظومة الدعم (نظام المقاصة)، وإصلاح الميزانية والقطاع المالي ونظام الصرف وتدعيم الحكامة الجيدة والتدبير المبني على النتائج، وتحسين مناخ الاعمال واعتماد قانون المنافسة وحرية الأسعار، ومراجعة الإطار المؤسساتي للمقاولات والمؤسسات العمومية، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وضمان استقلالية الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة. بالإضافة إلى مواصلة تنزيل ورش إصلاح العدالة وإكمال إصلاح صندوق التقاعد.

رابعا: تعزيز التماسك الاجتماعي وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، عن طريق تقوية الاستثمارات الموجهة للفئات الهشة والفقيرة خصوصا في الصحة والتعليم، بالإضافة للإجراءات المتخذة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مع تشجيع برامج تأهيل العالم القروي والمناطق الجبلية، وإنشاء صندوق دعم التماسك الاجتماعي وإحداث صندوق التكافل العائلي وكذا تعزيز الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.

ملامح التطورات الاقتصادية التي حققها المغرب في ال20 سنة الماضية.

وعلى هذا الأساس، استطاعت بلادنا، تحت قيادة جلالة الملك تعزيز الاستقرار المالي والتنمية  الاقتصادية بفضل سياسة مالية تهدف إلى استعادة استقرار التوازنات الماكرو اقتصادية عبر إنجاز عدد من الإصلاحات الجوهرية الجريئة التي همت إشكاليات ظلت مستعصية منذ أمد بعيد، ناهيك عن المجهود غير المسبوق الذي بذله المغرب لتحسين مناخ الأعمال ودعم المقاولة المغربية.

  • فعلى مستوى استعادة التوازنات الماكرو-اقتصادية، تراجع عجز ميزانية الدولة من 3,5% من الناتج الداخلي الخام سنة 2018،وتم ضبط مستوى مديونية الخزينة في حدود 65% من الناتج الداخلي الخام سنة 2018،كما عرف عجز الحساب الجاري لميزان الأداءات تراجعا كبيرا، حيث استقر في حدود 4% من الناتج الداخلي الخام، وقد مكن هذا التطور، بالإضافة ‘لى الارتفاع الذي سجلته الاستثمارات الأجنبية بالمغرب خلال السنوات القليلة الماضية، من رفع احتياطيات المغرب من العملة الصعبة إلى ما يفوق 7 أشهر من الواردات، تقريبا 233 مليار درهم سنة 2018. وبقي معدل التضخم محصورا في نسبة تقل عن 2%.
  • وفيما يخص النمو، فإن النسبة المسجلة خلال هذه الفترة قد بلغت %4,2 ، وذلك يعزى بالأساس إلى تدبير العجوزات الموروثة التي طالت التوازنات الماكرو-اقتصادية والتي أدت إلى خفض مساهمة الطلب الداخلي في النمو. ومع ذلك، تبقى هذه النسبة مشرفة بالمقارنة مع دول المنطقة وأخذا بعين الاعتبار السياق الخارجي المضطرب وتسجيل عدة سنوات من الجفاف سنوات من الجفاف.

وبغية توفير الشروط المواتية لإنجاز الأنشطة الاقتصادية وجذب الاستثمارات، ضاعفت المملكة جهودها قصد تعزيز وتأهيل البنيات التحتية، وقد تضاعف المبالغ المخصص للاستثمار العمومي بشكل كبير وصل إلى مبلغ 195 مليار سنة 2018 ، وقد ساهمت هذه الاستثمارات العمومية الضخمة في تحفيز الاستثمار وتشغيل المقاولات والشركات الوطنية بشكل كبير، مما أدى إلى تنشيط حركية الاقتصاد الوطني وضمان تمويل الاستراتيجيات القطاعية الكبرى، وإطلاق مشاريع ضخمة من الجيل الجديد كنور 1 ونور 2 ونور 3، والقطار فائق السرعة، وبرامج بناء وتأهيل المدن الكبرى، وتشييد المطارات والقناطر والسدود الضخمة، والطرق السيارة.. هذه الدينامية ساهمت في رفع إشعاع النموذج المغربي، وصنفت المغرب في مراتب مشرفة جدا في مجال جودة البنيات التحتية (تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول التنافسية)، حيث احتل المغرب المرتبة الأولى في شمال إفريقيا، والمرتبة الثالثة في إفريقيا، والمرتبة السادسة في العالم العربي، والمتربة 55 على الصعيد العالمي.

  • وقد ساهمت التدابير المتخذة فيما يخص تحسين مناخ الأعمال في ارتقاء المغرب إلى المرتبة إلى المرتبة 60 عالميا من أصل 190 دولة، وهو التقدم الذي اعتبره المتتبعون الاقتصاديون تاريخيا، بحيث تصدر المغرب شمال إفريقيا، والتمركز في الصف الثاني على مستوى مجموعة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA، والمركز الثالث إفريقيا. كما كشف تقرير التنافسية العالمي لسنة 2018، لأقوى الاقتصادات العالمية، تقدم المغرب واحتلاله المرتبة 75 عالمياً من أصل 140 دولة شملها التقرير، وتصدر المملكة دول شمال إفريقيا في هذا المؤشر.

  • وفي سياق متصل، ركزت جهود المملكة على مواصلة مجهودات التحول الهيكلي للاقتصاد الوطني نحو التصنيع والتصدير، بهدف تحقيق مستوى نمو متواصل، يُساهم في فك الارتباط تدريجيا عن تقلبات القطاع الأولي؛ وذلك عن طريق مواصلة تفعيل مخطط التسريع الصناعي، وفي هذا الإطار، استطاع المغرب في السنوات الماضية، استقطاب كبريات المجموعات الاقتصادية العالمية العاملة في صناعة السيارات والطائرات، وهو ما سيعزز مكانة المملكة المغربية مستقبلا كمنصة عالمية للتصنيع.  ومنذ إطلاق مخطط التسريع الصناعي، تم إحداث 54 منظومة صناعية بشراكة مع 32 جمعية وجامعة مهنية، ونتج عن هذه المنظومات الصناعية برسم الفترة 2014 -2017، إحداث 288126 منصب شغل، والتي شكلت موضوع اتفاقيات الاستثمار المبرمجة في هذا الإطار ،كما تمت سجيل ارتفاع قيمة صادرات المهن العالمية للمغرب من 90 مليار درهم سنة 2012 إلى أزيد من 170 مليار درهم سنة 2018، بالإضافة إلى التغيير الجذري في بنية الصادرات الوطنية التي أصبحت أكثر تنوعا وتتميز بصناعات ذات محتوى تكنولوجي عال.

التحديات الاقتصادية والرهانات الاجتماعية للنموذج التنموي الوطني.

مكنت هذه المكتسبات بلادنا من امتصاص الصدمات التي واجهته سواء منها الناتجة عن عوامل داخلية (كالجفاف)، وعوامل خارجية كالأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الأولية، وكذا استقطاب استثمارات أجنبية مهمة في مجالات واعدة كالصناعة والطاقة، غير أن هذا التقدم كان مصحوبا بتحديات اقتصادية وبتفاوتات اجتماعية ومفارقات مجالية، وهو الأمر الذي أكده جلالة الملك في عدة خطابات، ودعا جلالته إلى إعادة النظر في النموذج التنموي المغربي، وأكد أن هذا الأخير وصل إلى مداه سواء من حيث خلقه للثروة، أو من حيث عدالة توزيعها، الأمر الذي أدى إلى تفاقم النواقص اقتصادية والعجوزات الاجتماعية.

من أوجه قصور النموذج التنموي الوطني، تقلب معدل النمو الاقتصادي بسبب اعتماده على قطاع الفلاحة بشكل كبير والذي يرتبط بدوره بنسبة تساقطات الأمطار؛ هذا بالإضافة إلى عدم اندماجية النمو، ففي عام 2015،كان معدل نمونا 4.5٪ وتم إحداث فقط 33.000 وظيفة فقط، وهذا الضعف في خلق فرص الشغل بالمغرب يكتسي طابعا بنيويا في نموذجنا التنموي، ويتفاقم مع توالي السنوات، مع ارتفاع مستمر في بطالة الشباب (23 حاليا) وخصوصا من حاملي الشهادات، وبالأخص من المدارس العليا والتكوين المهني

ويعتبر انتشار القطاع غير المهيكل من أهم العقبات التي تؤثر على تحسين النمو الوطني، حيث يزداد تقريبا ب19 ألف وحدة سنويا، (وصل حاليا إلى حوالي مليون و700 ألف وحدة غير مهيكلة)، الأمر الذي يُضيّع على خزينة الدولة مداخيل جبائية تقدر بـ 34 مليار درهم سنويا؛ كما أن تزايد عمليات التزوير يؤثر سلبا على تنافسية الاقتصاد الوطني، حيث يقدر التزوير بما بين 6 و 12 مليار درهم في السوق المغربية. وهو ما يمثل ما بين 0,7 % و 1,3 % من الناتج المحلي الإجمالي. الأمر الذي تترتب عنه خسارة ضريبية تقدر بحوالي مليار درهم، ويحول دون توفير حوالي 30.000 منصب شغل.

على الرغم من أن المغرب يحقق معدل استثمار يعد من بين أعلى المعدلات في العالم (33 في المائة من الناتج الداخلي) يظل تأثيره على معدل النمو دون المتوقع،كما أن حجم هذا الاستثمار لا يؤثر في التحول الهيكلي للاقتصاد الذي يبقى بطيئًا، بل على العكس هناك تراجع مستمر في مردودية الاستثمارات العمومية.

في سياق متصل، لم يستفد الاقتصاد الوطني من اتفاقيات التبادل الحر، حيث سُجل عجز مستمر في الميزان التجاري، كما لم يتم الارتقاء بالطلب الخارجي لجعله محركا حقيقيا للنمو الاقتصادي، مما دفع بلادنا للجوء إلى الطلب الداخلي والذي لا يمكنه، في ظل محدودية حجم السوق الوطنية وإكراهات التمويل..

وفي الشق المتعلق بالتحديات الاجتماعية، احتل المغرب سنة 2018 المرتبة 123 من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تصنيفه للتنمية البشرية لعام 2018، ترتيب له علاقة بمؤشر التنمية البشرية البالغ 0.667، وهو ما أدى بتصنيف المغرب ضمن البلدان ذات “التنمية البشرية المتوسطة”، وجاء في تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ألا تتجاوز الحركية الاجتماعية التصاعدية 35 ٪، مما لا يساهم في تطوير وتوسيع حجم المستفيدين من الارتقاء الاجتماعي ومحاربة التوريث الجيلي للفقر. ومازال المغرب يشكو في مجال التعليم، حيث يحتل المرتبة 153، ومعدل الالتحاق بالتعليم العالي بقي منخفضا في المغرب لم يتعد عتبة 30٪ إلى حدود اليوم، في حين تصل النسبة إلى أكثر من 100٪ في دول أخرى مثل تركيا.

ما المطلوب؟

إن التحدي الحقيقي اليوم هو تحدي القيام بمراجعة جماعية تعيد النظر في المفاهيم والتصورات الموروثة، ينبغي على جميع الفاعلين الوطنيين بلورة رؤية مندمجة ومتعددة الأبعاد للنموذج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ببلادنا، ولمنظومة الحكامة المركزية والترابية في كل أبعادها بشكل يتجاوز الإصلاحات القطاعية المعزولة ويجعل من العنصر البشري الرهان الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا، فضلا عن الوعي بالمطالب الملحة المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لتمكين المواطنين من المساهمة في خلق الثروة والاستفادة من ثمارها بشكل عادل. المطلب الذي يفرض نفسه اليوم كذلك هو مطلب إرساء نظام حكامة فعال،قائم على تنسيق والتقائية السياسات والبرامج العمومية، مع الحرص على تتبعها وتقييم تنفيذها. علاوة على ذلك ينبغي تركيز المجهود الحكومي نحو تحفيز الاستثمار وتحسين مناخ الاعمال ودعم المقولات الوطنية ، خصوصا الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة، مع تقييم فعالية الاستثمارات وتوجيهها نحو المشاريع الأكثر مردودية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.