نافذة على كتاب “العقل ضد السلطة” لنعوم تشومسكي وجون بريكمون

يتميز كتاب “العقل ضد السلطة” لمؤلفيه نعوم تشومسكي وجون بريكمون، بحس نقدي عال، حيث يحاول المؤلفان، بحث قضايا راهنة وأخرى نظرية وعلمية، تشكل، في مجموعها، محور تفكير إنساني، سواء تعلق الأمر بالإنسان في العالم الغربي أو الشرقي.

الكتاب..

ترجم كتاب “العقل ضد السلطة” إلى العربية عبد الرحيم حزل، وصدر عن دار التنوير ببيروت ودار الأمان بالرباط، وبلغ عدد صفحاته 168، وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2014.

يتألف الكتاب في هذه الطبعة العربية من ثلاثة أقسام (جاء في أصله من قسمين اثنين)، أول من ينتظمه محور النقد لأمريكا والسياسة الأمريكية. وثانٍ يقلب فيه المتحاوران في شؤون الطبيعة البشرية، والتقدم والثورات، والفوضى والسوق والمثقفين، وحرية التعبير، والدين، والأخلاق، وثالث يتداولان فيه شؤون الفلسفة، (الوضعية، والتأويلية) والعلم (النظريات غير الفيروسية، والداروينية)، والجسم والروح.

نقد تشومسكي للغرب..

يصرح الكتاب بالموقف النقدي الذي دأب عليه تشومسكي تجاه الغرب عامة، فلا يفوت فرصة إلا أعلنه وحشد له من جديد الأمثلة، وحتى ليخيل للقارئ أن الرجل يميل صوب الشرق، وحتى لتراه ينتصر في بعض الأمور للاتحاد السوفيتي، ومن قبل ذلك يرى أن غزو السوفييت لأفغانستان كان شرا أهون من حرب الولايات المتحدة على هذا البلد، حجته في ذلك أنه يرى وضعية المرأة الأفغانية على عهد السوفييت كانت أحسن من وضعيتها على عهد الأمريكان.

وفي المجال الاقتصادي يرى النموذج الرأسمالي الغربي قد آل إلى بوار، ولا يتردد أن يضرب له المثل في “التقدم” ببعض البلدان النامية. ومن ذلك أنه يجعل النموذج البوليفي متقدما وهاديا للنموذج الأمريكي الشمالي. ويرى أن المعيقات التي كانت تواجه أمريكا مشاريع تشافيز إنما كان الباعث عليها “الدور الهام الذي اضطلع به هذا الرجل في إدماج أمريكا الجنوبية في عملية إعادة توزيع الثروات، بما يخدم المعوزين في فنزويلا”.

ولا يفوت تشومسكي كالعادة أن يوجه سهام النقد إلى النخب الليبرالية، ومن ذلك أنه يرى أن تلك الإجراءات التي جاء بها تشافيز قد كان لها مفعول الرجة في نفوس النخب الأمريكية”.

نضال الشعوب..

يرد تشومسكي كل الإنجازات التي تحققت للإنسانية في معظم بلدان المعمور، وعلى رأسها أمريكا، إلى نضالات الشعوب؛ فهي التي تجبر الآلة الاقتصادية والسياسية على تغيير وجهتها والرضوخ لمطالب الشعوب. “فبعض التغيرات تظل ممكنة، لكن لا سبيل إلى تحققها بغير التزام نضالي طويل”. وقانون “العهد الجديد”، الذي وضع للخروج من أزمة 1929 إنما جاء “استجابة للمظاهرات العارمة التي كانت تبدر من الشعب”.

 وبناء على هذا المنطق، یری تشومسكي أن “الفواعل الرئيسيين في التغيير الحالي الذي يشهده العالم هم المنظمات الشعبية، من قبيل حركة “معدومو الأرض”. وبعد أن يسوق تشومسكي من الأمثلة والحالات المبرزة للبوار الذي آل إليه النظام السياسي والاقتصادي الراهن، يرفع صوته بالسؤال: “فهل نحتاج إلى أسباب أكثر من هذه لندين النظام الاقتصادي الحالي”؟

أهمية الدين..

ومن أفكار تشومسكي في هذا الكتاب ما سيستثير القارئ العربي، والمسلم خاصة؛ فهو ينوه إلى أهمية الدين ولا يخفي إعجابه بالأشخاص الذين يحملون مبادئ دينية صادقة؛ فهي تكون لهم باعثا على الراحة النفسية، وعاملاً يجتمع حوله الناس، وهو شيء يأسف للافتقار إليه في المجتمع الغربي المستلَب والمنقسم على نفسه.

 ولا تری تشومسكي كذلك يستنكف المتطرفين الدينيين، أمثال الهندوس؛ فهم برأيه يفهمون أن الشعب، وخاصة منه الساكنة الفقيرة والعاجزة، له احتياجات ورغبات ليست مادية فحسب، أو تقتصر على متطلبات الحياة اليومية، بل إن احتياجاته كذلك وجدانية وروحية وابتكارية.

ويری تشومسكي في هذا الباب أنه طالما لم يكن في المعتقدات الدينية ما يضر بالآخرين فينبغي أن اشترك في نطاق ما هو خاص، لكنه لا ينفي عن العقيدة الدينية أن تكون خطيرة، غير أنها تشترك في هذه الخطورة كذلك، العقيدة اللائكية. وأما اليسار اللائكي فما عاد له برأيه دور أو تأثير، وأنه “انكفأ على مغاير من مغايرات ما بعد الحداثة لا يفهمه إلا أقل القليل”.

نقد المثقف الغربي..

القارئ للكتاب يتضح له أن أكثر من ينالهم تشومسكي بنقوده هم المثقفون الغربيون. فهو يراهم في كثير من مواقفهم ينحازون إلى جانب السلطة، أو أنهم في ما يصدرون عنه من مواقف لا يأخذون الوقائع ولا الحقائق في الحسبان. فلذلك يبدو تشومسكي في كل ما يصدر عنه أفكار “مشتغلا ميدانيا بالعلم”، فلا يهتم لبناء نظرية خاصة، بل يستكره مصطلح “نظرية”، ويرى أنه “مصطلح عفى عليه الزمن”.

فلذلك يرى تشومسكي، في باب الجدوى من العمل الثقافي والفكري، أن المثقفين لا ينبغي لهم أن يكتفوا بـ “التعرض بالإدانة للسلطة”، ولا أن يقتصروا على استعراض “نظرياتهم” برصفها بعضها إلى جانب بعض، بل ينبغي أن يأتوا ببدائل أساسية، وأن يستفرغوا الجهد في ما من شأنه أن يمكن من الدفع بتلك البدائل نحو التحقق.

أهمية الكاتب والكتاب..

خلاصة القول إن كتاب تشومسكي هذا، على صغر حجمه، يمثل بوابة لازمة للتعرف إلى هذا المفكر وخصوصيته بين مثقفينا المعاصرين، وهو يعتبر في الوقت الحاضر أقواهم صوتاً وانتقاداً لمظاهر الجور والطغيان الغربي، ومظاهر الزيف والخطَل في كثير من الأطروحات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية التي جاء بها مثقفو الليبرالية الغربية، وكُتِب لها الشيوع، وصار لها السلطان على نفوس النخبة والعامة على السواء.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.