الطويل يكتب: بأي رهانات تخوض العدالة والتنمية انتخابات 2021؟

محمد الطويل

يجري المغرب هذه السنة ثالث انتخابات تشريعية وثاني انتخابات جماعية وجهوية له ما بعد إقرار دستور 2011. وهي الانتخابات التي تحظى بأهمية كبيرة بالنظر لمختلف السياقات التي تُنظم فيها، وكذا العديد من الرهانات المتعلقة بها. والتي تتنافس الأحزاب السياسية، باعتبارها الفاعل الأساس في هذه الاستحقاقات، في طرح أجوبتها على مختلف التحديات والاستحقاقات التي تستصحبها.

وفي هذا الإطار، انكب حزب العدالة والتنمية منذ شهور في خوض غمار تمرين “تقييمي/تفكري” و”ارتيادي/استشرافي” داخلي من أجل بلورة تصوره العام لطبيعة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وما تفرضه من تحديات ورهانات، وجب أن تشكل عناوين ناظمة ومؤطرة لمشاركته في هذه الانتخابات الجارية.

طبعا.. وبخلاف بعض أشباه الأحزاب، خاضت العدالة والتنمية هذا التمرين بالاعتماد على ما ركمه قياديوها ومسؤولوها وأطرها من قدرات ومؤهلات وتجربة في التدبير الحكومي والترابي لسنوات طويلة. وهو التمرين الذي تُوج بعملية اختيار مرشحات ومرشحي الحزب وفق مساطر مضبوطة ونقاشات طويلة أفرزت لوائح انتخابية من خيرة أبناء وبنات الحزب.

وقد تابع المغاربة مقدار الجهد التنظيمي الكبير الذي بذله الحزب في انتداب من يراهم أنسب للمساهمة في تدبير الشؤون العامة الوطنية، عبر جموع عامة محلية وهيئات ترشيح أولية ونهائية وهيئات تزكية إقليمية وجهوية ووطنية. في اللحظة التي لم نسمع معها، مع كل الأسف، عن أي مساطر أو منهجيات اعتمدتها العديد من الأحزاب لتزكية مرشحيها.

على أي، انكبت قيادات وأطر الحزب على مهمة صياغة تصورها لخوض غمار الانتخابات المقبلة، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة الانتخابويين، من دون أن يعني هذا أن حزب العدالة والتنمية غير معني بتحصيل مكاسب انتخابية، ما دام أن هذا طموح مشروع لأي مشارك في الانتخابات، غير أن هذا لا يعني أيضا أن الحزب يشارك انتخابيا وأعينة منصبة على نتائج المواقع والمقاعد فقط. وإنما الأمر يتضمن ذلك ويتجاوزه إلى آفاق أخرى لزم كل منافس انتخابي استحضارها.

هكذا، ومن خلال مطالعة  مختلف الحصائل والأوراق والبرامج التي دبجها الحزب بأيادي ومجهودات مناضليه، أو من خلال تتبع مختلف المبادرات والمواقف التي قدمها بشأن النقاشات التي صاحبت مسار تعديل النظام العام الانتخابي بعد أن تواطأت كل الأحزاب السياسية، ما عدا العدالة والتنمية، على اعتماد مقتضيات لاديمقراطية، كان الغرض من ورائها محاصرة فاعل حزبي والحدّ من تقدمه على باقي الفرقاء.

اليوم، ومن خلال هذه المطالعات والمتابعات، يتبيّن جليا الإطار التصوري العام الذي بالبناء عليه يشارك مناضلو ومناضلات المصباح في الانتخابات الحالية. ويمكن تكثيف أهم هذه الرهانات في ما يلي من أبعاد ومستويات:

1. رهانات وطنية:

بلا شك، تشكّل مسألة استكمال الوحدة الترابية أحد أهم الرهانات الوطنية للانتخابات الراهنة ولما بعدها. خاصة في ظل التحديات المرتبطة بتسارع وتيرة المشاغبات والسياسات العدائية التي ما فتئت تخطط لها الأطراف المناوئة للحقوق التاريخية الخالدة للمغرب في صحرائه وفي مختلف الثغور المحتلة، لا سيما بعد الإنجازات المهمة التي حققها المغرب على الصعد الديبلوماسية والاستراتيجية والتنموية، والتي ساهمت في: أ) تعزيز ثقة سكان المنطقة في الطرح الوحدوي وأكدت هامشية ولا واقعية الطرح الانفصالي مما أثبت عزلته وانحساره؛ ب) صيانة التراب الوطني وحماية الحدود بحرفية عالية، لا سيما بعد التدخل العسكري المهني للقوات المسلحة الملكية في تأمين معبر الكركرات، والتي كان آخرها تنظيم عملية “الأسد الإفريقي” بالجنوب المغربي وبمناطق حساسة واستراتيجية أكدت سيادة المغرب على كامل ترابها واعتراف أغلب بلدان العالم بذلك، خاصة بعض مشاركة عشرات الدول عسكريا في هذه المناورات؛ ج) تعزيز قابلية المنتظم الدولي للأطروحة المغربية بعد حالة المراوحة والتراجع التي تعرفها سياسات ومؤمرات أعداء الوحدة المغربية، لا سيما بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء وإقامة العديد من الدول تمثيلياتها بمدنتي العيون والداخلة المغربيتين.
نعلم جميعا، أن تدبير هذا الملف الحساس تديره الدولة بمفهومها السيادي، ولكن هذا لا يمنع من القول أن أحد الأجندة المستقبلية المهمة التي تنتظر عمل الحكومة وكافة المؤسسات التمثيلية هو تسريع أدائها التواصلي والرفع من درجة يقظتها الديبلوماسية وتكثيف مجهوداتها التنموية بالأقاليم الجنوبية. لهذا، جعل حزب العدالة والتنمية الاستحقاق الوطني على رأس أولوياته، مستشعرا قيمة التحولات الجيوستراتيجية التي أقبل عليها المغرب بخصوص رؤيته لإدارة الصراع ودفاعه عن حرمة ترابه ووحدته الوطنية.

2. رهان محاصرة الوباء ومعالجة تداعياته:

 ذلك أن الوباء لا زال يطرح الكثير من التحديات، لا سيما مع شدة خطورته وطول مدته وسرعة انتشاره وتوالي تحولاته الجينية. ومع التقدير الكبير للسياسة التي واجه بها المغرب هذا الوباء والتي جاءت متسمة بالجدية والسرعة واليقظة، إذ جعلت حياة وصحة المواطن على رأس أولوياتها. وهو ما شهدت به دول كبيرة ومتعددة عجزت أنظمتها الصحية، بالرغم من صلابتها وصرامتها، على مواجهة هذا الوباء.

وعلى قيمة ونجاعة هذه التدخلات، إلا أن استمرار الوباء في الانتشار وحصد مزيد من الأرواح وطنيا ودوليا، يستدعي أن يشكل القضاء عليه ومعالجة تداعياته على الاقتصاد الوطني والوضع الاجتماعي لفئات واسعة من الشعب المغربي التي تعاني من الهشاشة رهانا وطنيا وحكوميا كبيرا.

لذلك يشكل هذا الرهان أحد أهم الاستحقاقات التي أطرت مختلف المقترحات البرنامجية لحزب المصباح من أجل استئناف المجهودات الوطنية الصحية والعمل على مواجهة مختلف الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها هذا الوباء، والتي يظهر أن أمدها وأمد تداعياتها سيستمر للمدى المتوسط، والذي يمكن، لا قدر الله، أن يستغرق نصف الولاية الحكومية المقبلة، بعد أن استغرق قرابة نصف الولاية الحكومية المشرفة على الانقضاء.

3. رهانات سياسية وديمقراطية:

بلا شك، أن أحد الاستحقاقات الأساس للانتخابات المقبلة هو الاستمرار في تكريس الخيار الديمقراطي بترصيد المكتسبات الدستورية والمؤسساتية والسياسية والذود عنها ضد كل النزوعات التي تحدو بعض الجيوب التي لا زالت تحنّ لعهود الاستبداد بالقرار السياسي والاستئثار بموارد الثروة الوطنية والتي تعمل جهدها من أجل تبخيس العمل العمومي وترذيل المؤسسة الحزبية وتنفير المواطن من العملية السياسية.

اللحظة الانتخابية الراهنة تقتضي مواجهة كل حملات التيئيس والتبخيس وسياسات النكوص الديمقراطي، بالعمل على الاستمرار على نهج الإصلاح وممانعة كل الاختيارات التراجعية من أجل إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي الذي لا تزال تجربتنا السياسية الوطنية تراوح مكانها إزاءها. صحيح أننا تقدمنا خطوات معتبرات بالنظر إلى مؤشرات الدمقرطة، لكننا لم نقطع بعد مع مسار التردد الذي تعبر عنه بعض التراجعات ذات الطبيعة السياسية والحقوقية، والتي لا تؤدي إلا إلى إفقاد المواطن الثقة في المؤسسة والعملية السياسيتين.

لذلك، كان أحد أهم الرهانات الكبرى والاستراتيجية لهذه الانتخابات ولما بعدها هو تعزيز ثقة المواطن في الانتخابات وفي التجربة الديمقراطية الوطنية، وتشجيعه أكثر على الاهتمام بالشأن العام والمساهمة في تدبيره. وذلك من خلال صيانة نبل وصفاء العملية السياسية، والدفاع عن استقلالية وسيادية المؤسسة الحزبية، وفتح المجال للجميع من أجل المساهمة في النقاش العمومية وتدبير الشأن الوطني، ومنح المعنى السياسي والديمقراطي للعملية الانتخابية بعيدا عن سياسات “خندقة المشهد الحزبي” و”بلقنة المؤسسات التمثيلية” و”التحكم القبلي في مخرجات العملية الانتخابية”.

لهذا، وبالرغم من أن حزب العدالة والتنمية كان قائدا للعمل الحكومي والحزب الأول في الأغلبية المساندة للحكومة، إلا أنه لم يطق عملية إفراغ الانتخابات من مضمونها التنافسي رافضا ما اجتمعت عليه الأحزاب من فرض مقتضيات “لاديمقراطية” إبان المراجعة الأخيرة للقوانين الانتخابية والتي أفضت إلى إلغاء العتبة واعتماد قاسم انتخابي على أساس المسجلين في ضرب حقيقي للمبادئ الديمقراطية كما هو متعارف عليها.

4. رهانات تنموية واقتصادية:

 أحد أهم الرهانات التي تحدو حزب العدالة والتنمية برسم الانتخابات المقبلة هو العمل على تنزيل التصور الجديد للنموذج التنموي من خلال العمل على تقوية الاقتصاد الوطني والرفع من قدراته التنافسية وتشجيع المقاولات الوطنية وتحسين مناخ الأعمال بما يقتضيه ذلك من إجراءات تحفيزية لاستقطاب الاستثمارات الخارجية وتشجيع ثقافة المقاولة، وتفعيل الإصلاحات الإدارية والمؤسساتية الرامية إلى تكريس مبادئ الحكامة الجيدة والشافية والنزاهة ورقمنة الخدمات الإدارية وإصلاح النظام القضائي.

وبكل تأكيد أن النهوض بهذه الرهانات يقتضي الاستمرار في محاصرة سياسات الاحتكار والاستئثار بالثروات والقضاء على الاقتصاديات الطفيلية التي لا عناية لها إلا بمصالحها الرأسمالية الضيقة، والتي ما فتئت تراكم ثرواتها من خلال حرصها على “الجمع بين السلطة والمال” و”القرب من دوائر النفوذ والقرار” و”احتكار الثروات وقطاعات واسعة من الأسواق” وبناء الاقتصاديات العائلية المستفيدة من “خدمات الريع” و”أعمال السمسرة” و”تفشي ظواهر الفساد السياسي والإداري”.

5. رهانات اجتماعية:

ذلك أن التحديات الاجتماعية التي تطرحها التحولات السوسيولوجية والفئوية والمجالية تقتضي الإسراع بإرساء نظام اجتماعي مؤهل لتوزيع مقدرات وخيرات الوطن توزيعا عادلا، وكفالة استفادة كل المواطنين من مخرجات عمليات إنتاج الثروة الوطنية والولوج إلى ما يضمن لهم كرامة العيش. ولعل أحد مداخل ذلك هو تيسير ولوج الجميع للخدمات العمومية الأساسية من صحة وتعليم وسكن، ونهج استراتيجية اقتصادية منتجة للثروة ولفرص الشغل والتوزيع العادل للاستثمار العمومي الوطني من تشييد الطرقات والمدارس والمستشفيات والجامعات والمراكز الثقافية والاجتماعية. والاستمرار في دعم الطبقة المتوسطة وانتشال الطبقات الشعبية من وضعيات الهشاشة والفقر.
اليوم، نحن في حاجة إلى بناء تصور للرهانات الكامنة وراء الانتخابات، والتي لا ترقب فقط موازين الخسارة والربح، ولكن تصورات للرهانات الاستراتيجية والكبرى التي تحفز على الانخراط الجاد والواعي باستحقاقات المرحلة وتحدياتها، والتي تستلزم “رص الصف الوطني الداخلي” و”تقوية التجربة الديمقراطية الوطنية” و”تعزيز فرص بناء اقتصاد وطني منتج وتنافسي” و”بناء نظام اجتماعي قوامه العدالة والحرية والكرامة”.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.