الطويل يكتب:تجربة العدالة والتنمية من مشروعية “الفكرة والمنهج”.. إلى شرعية “الكسب والمنجز”

محمد الطويل

لم يكن من باب العبث أن خصّص العديد من الباحثين في حقول المعرفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية جزءاً معتبراً من مجهوداتهم العلمية والبحثية لدراسة تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي، وتتبع مسار مساهماته في مختلف المواقع التي يشغلها، سواء على مستوى توجيه دفة التسيير الحكومي لولايتين متواصلتين، أو على مستوى تدبير وزارات حيوية وذات أولوية همّت قطاعات ذات بعد استراتيجي وأفقي واجتماعي، أو على مستوى العمل البرلماني بوظائفه الرقابية والتشريعية والتقييمة والديبلوماسية، أو على مستوى التدبير الترابي من خلال رئاسة مجالس جهوية وجماعية بالعديد من كبريات الحواضر وعواصم الجهات ومدن المملكة وقراها.
ذلك أن هذه التجربة المغربية الخالصة، تكاد تكون واحدة من بين أقدر تجارب الأحزاب العربية ذات المرجعية الإسلامية على الانسياب السلس ضمن شعاب نسقها السياسي المعقّد وبنية أنظمتها المركّبة. كما أنها تعتبر أحد أهم التجارب الحزبية التي أظهرت كفاءة على الاستمرار في المساهمة في تدبير الشأن العام بعد لحظة الحراك الانتفاضي العربي ضدا عن الاستبداد والفساد والانغلاق والسلطوية، عكس العديد من التجارب الأخرى التي نجحت قوى الردة في انقلابها على مخرجات هذا الربيع وإقفال قوسه.
وبلا شك، أن هذا الحضور المقدّر الذي حقّقه حزب المصباح في المشهد السياسي المغربي يعود إلى جملة أسباب موضوعية وواقعية مرتبطة بخصائص ومميزات الإنسية والاجتماع العمراني المغربيين. ويكفي بهذا الصدد الإشارة إلى معطيين أساسين مكّنا حزب العدالة والتنمية من تحصيل نجاحاته وتميّز تجربته:   •    أولهما، طبيعة المجتمع المغربي الأصيل المعتزّ بعناصر تركيبه السوسيو-تاريخي، والمعنيّ بالحفاظ على مقومات ذاته الثقافية والحضارية. فعلى مرّ قرون طوال، لا سيما بعد تأسيس الدولة الإسلامية، بقي المغاربة أوفياء لمرجعيتهم الإسلامية منافحين عن حرماتهم وحماهم. ومن ذلك احتضانهم لمحاولات الإصلاح ودعوات التجديد التي انبعثت من رحم المجتمع محترمة أصالته وأسس اجتماعه.
ويشهد التاريخ على ما أبداه المجتمع المغربي من تعبؤ متواصل ودائم دعماً للقوى والدعوات الطامحة لصيانة عزّة الأمة ووحدتها، وتعزيز صلابة الدولة وقوتها، وتحصين وحدة الجماعة المغربية وتحقيق نهضتها.
وجرت عادة المغاربة على هذه السّنة الراسخة، بقدر ما  كانت تلك الحركات والدعوات الإصلاحية والتجديدية والتصحيحية وفيّة لمبدأ استنادها على هويتهم الجماعية، ومرتكزة في فكرها وحركتها على معالم خبرتهم التاريخية ومفاهيم نموذجهم الإدراكي وتوجيهات منظومة قيمهم المشتركة.
بل إن المغاربة، ككل الشعوب والمجتمعات، سرعان ما كانوا يُعرضون عن كل مشروع إصلاحي أو توجّه تغييري أو تيار فكري أهمل مقومات ذاتهم الحضارية أو جنح نحو الاصطدام بأسس مدركاتهم الجماعية؛   •    ثانيهما، خاصية النظام السياسي المغربي القائم على مبدأ “إمارة المؤمنين” واستراتيجيته في تدبير التعدّد السياسي والحزبي وإدارة الاختلاف الاجتماعي والثقافي. إذ اتجهت استراتيجية القائمين على شؤون الدولة على التعاطي مع مكوّنات الحركات الإسلامية بغض الطرف عنها حيناً أو بالسماح لها بقدر من النشاط الفعلي من دون منحها الغطاء القانوني اللازم.
وبقي الأمر على هذا الحال، إلى أن تطور الموقف الرسمي للدولة المغربية في تجاه إشراك جزء من هذه الحركة في الحياة العامة، ولو أنه جاء إشراكا محتشما ومتحكما فيه. وقد تبلور هذا التطور الإيجابي بعد أن أنست الدولة في هذه الحركات ولاءً وطنياً، وتأكد لها حجم ما تتمتع به من رشد فكري وعملي جعلها بعيدة كل البعد عن ثقافة الغلو والتطرف والعنف والإقصاء، وتيقنت حرصها على أمن المجتمع واستقرار الدولة ومصلحة الوطن.
بخلاف بعض التجارب العربية التي نهجت أنظمة الحكم فيها نهج إقصاء الفاعل الإسلامي واستبعاده الاستبعاد الكلّي المطلق من كل مناحي الحياة العامة، ومواجهة الكثير من هذه التنظيمات بلغة الحديد والنار وبمنطق التهجير والاعتقال. والتي سرعان ما انقلبت فيها مجريات الأحداث، مع كل الأسف، إلى صراع عنيف مع بعضها، مما جرّ الكثير من الويلات وفجّر العديد من التناقضات التي عجزت تلك الأنظمة والحركات على حلّها.
وإلى جانب هذين المعطيين الموضوعين، يرجع نجاح العدالة والتنمية في ما انتدب له نفسه من مهام إلى ذلك الانخراط الواسع لجزء من بنات وأبناء الصحوة الإسلامية المغربية في حركية فكرية تقييمية ونقدية مبكرة وجادّة، تمكّن عبرها هؤلاء الشباب من مراجعة الكثير من المسلمات والأفكار التي كانت تدفع في تجاه تعميق التناقض مع المجتمع ومكوناته باسم الطهرانية والاستعلاء.. أو مع الدولة ومؤسساتها بمنطق الحدّية والاستعداء.
وبفضل مختلف تلك الديناميات القائمة على تفعيل ورش التفاكر والحوار الجماعيين، واحترام خلاصات الاجتهاد الجماعي في الفهم والتقدير، والعمل من داخل المؤسسات بالتزام قرارات اللجان والهيئات؛ بفضل كل ذلك، انتهت هذه التجربة إلى تنسيب وعيها بذاتها وأنسنة اجتهاداتها وفهومها وانفتاحها على العصر وقبولها بالآخر.
وخطوة خطوة، شرع حزب العدالة والتنمية بعد مؤتمره الاستثنائي أواسط العقد التاسع من القرن الماضي في استثمار عناصر لحظة الانفتاح السياسي والحقوقي التي انخرط فيها المغرب، حرصا منه على التعامل مع فرصها السياسية وممكناتها الإصلاحية التعامل المسؤول والمتوازن. وهي الفرص والإمكانات التي كانت تبشر حينها بتهيؤ شروط خوض تجربة انتقالية واعدة وممكنة، مترجمة طموحات نخب وقوى وقطاعات شعبية واسعة ظلت توّاقة للقطع مع مسار التردّد الديمقراطي.
ولأنها لحظة توّجت مساراً من الانفتاح السياسي والانفراج الحقوقي والإصلاح الدستوري المستوعب لمختلف المكونات والحساسيات، بعيدا عن علاقات التوتر بين الفاعلين أو التقاطب بين النظام والمعارضة؛ لأنها كذلك، اختار حزب العدالة والتنمية أن يجدّد مشاركته السياسية في أفق المساهمة في إنجاح هذه التجربة بتحفيز شروطها وتيسير ظروفها وتعزيز أسباب وسبل نجاحها.
هكذا، وبعد مرور ما يفوق نصف قرن عن التأسيس الأول للحزب.. وبعد مرور ربع قرن عن ضخ دماء جديدة في شرايينه بعد التحاق جزء من أعضاء الحركة الإسلامية المقتنعين بخيار الإصلاح من الداخل.. وبعد عقد من المساهمة في تدبير الشأنين العامين الوطني والترابي من مواقع متقدمة. اليوم، يقف حزب العدالة والتنمية على حصيلة مقدّرة من المساهمات المعتبرة أضفت على الحياة السياسية الوطنية مصداقية وتنوعا وثراءً.
فبفضل نضاله الدائم والمتواصل ونهوضه بمختلف الأدوار المنوطة بمسمى حزب سياسي، استطاع حزب العدالة والتنمية أن يشكل إضافة نوعية للمشهد الحزبي، لا باعتباره مجرد رقم سياسي أو دكان انتخابي، وإنما بوصفه حزبا سياسيا يعي جيدا ظرفه السياسي والاجتماعي، ويعمل جاهداً لأن يتموقع من حركية الواقع من حوله الموقع النضالي الصحيح، في إطار ما يتناسب مع معالم مذهبيته الفكرية وتوجهات خطه السياسي ومجموع طموحاته الإصلاحية.
وعلى مرّ هذه العقود من الزمن، راكمت مشاركة الحركة الإسلامية، في شخص حزب العدالة والتنمية، تجربة مهمة محصّلة كسوبا إصلاحية مختلفة ومرصّدة شرعيات متنوعة متعدّدة، بعضها لم يجتمع لتجارب سياسية وحزبية أخرى. وعلى أيّ، يمكن تكثيف أحد أهم هاته الشرعيات في التالي من الأمور:
    •    شرعية الاختيار الإصلاحي:
ذلك أن حزب العدالة والتنمية اختار عن وعي تأسيس مشروعه الإصلاحي وصياغة تصوراته المذهبية وتأصيل قواعده المنهجية بما يتناسب مع أصالة المجتمع المغربي وينسجم مع مقوماته وقيمه، وبالشكل الذي يراعي مختلف السياقات والتحديات التي تجتازها الدولة والمجتمع.
وهو الأمر الذي سمح لهذا الحزب بالانسياب السلس ضمن النسق السياسي الوطني والتأقلم الإيجابي مع حدوده ونطاقاته وممكناته وسقوفه دون إرباك لاستقرار المؤسسات وتوازنها. ولكن من دون أن ينسى دوره الإصلاحي الذي يدفعه إلى أن يكون فاعلا في تجاه ترصيد المنجزات وتثمين الإصلاحات ومعالجة الاختلالات وتصحيح الاعوجاجات.
وفي هذا السياق، تيسر لحزب العدالة والتنمية أن يرقى بالحياة السياسية، سواء من خلال تعبيره عن حساسية مجتمعية لها تجذرها الشعبي وطامحة إلى اعتماد سياسات عمومية وصياغة منظومات قانونية متجاوبة مع رؤاها وتوجهاتها وانتظاراتها، أو من خلال إغناء الحياة السياسية بخطاب ومفردات واجتهادات أثرت النقاش العمومي الوطني وقدّمت إجابات على ما استجد من أسئلة وقضايا، أو من خلال الانفتاح على فئات اجتماعية جديدة ظلت مستبعدة عن ممارسة حقها في المشاركة السياسية والتي وفّر لها حزب العدالة والتنمية القناة التنظيمية والحزبية المناسبة لتصريف اهتماماتها بالشأن العام وتيسير مساهمتها في تدبيره.
    •    شرعية الموقف الإصلاحي:
إذ مكنت الأطر التحليلية والمحددات التصورية التي يعتمدها الحزب في قراءته لحركة الواقع ورصد متغيراته وتحولاته وارتياد مآلاته وتطوراته، مكنته هاته الأطر من حسن التعاطي مع كل مرحلة بما تجلبه من رهانات وتحديات.
وعلى هذا المنوال، شرع الحزب في بناء تقديراته للحظات السياسية والاجتماعية التي يمر بها من خلال ما أنتجه من مفاهيم منهجية وقواعد تحليلية متسمة بقدرة تفسيرة معتبرة، ليتسنى له إصدار المواقف المناسبة إزاءها، كل ذلك وفق معادلات إصلاحية قوامها التوازن والمسؤولية والإنصاف. لتجري ممارسته السياسية وفق منهجية تتفاعل بجرأة وقوة مع طموحات وانتظارات المجتمع، ولكنها في نفس الوقت تراعي المحدوديات والإكراهات التي تواجهها الدولة.
الأمر الذي جعله منه حزبا وطنيا مسؤولا ومؤهلا لمواجهة التحدّيات بتصورات واضحة ومبادئ راسخة ومنهجية مرنة وخطابات صادقة. ولا تعوز الأدلة والشواهد التي يمكن الإشارة إليها في هذا المقام، ومع ذلك يمكن الاستشهاد إلى وقائع كثيرة طبعت كفاح حزب العدالة والتنمية سواء مع الجيل الأول من مؤسسيه إبان الكفاح من أجل التحرير والاستقلال، أو النضال من أجل إقرار نظام سياسي تعدّدي محترم للحريات العامة، أو تحفظه على قرار إعلان عن حالة الاستثناء ودعوته لضرورة العودة إلى العمل بالدستور وبمستلزمات الديمقراطية.
وإن كان هذا الأمر إبان الصيغة الأولى للعدالة والتنمية، فإن الحزب في صيغته الثانية ظل وفيا لهذا المسار المدافع عن ثوابت الأمة ومؤسساتها، والمناصر لمسار دمقرطة إنتاج السلطة ولتنمية إنتاج الثروة ولعدالة توزيع الخيرات.
وفي هذا السياق، لم يتوان الحزب في إسناد تجربة التناوب الديمقراطي معتبرا إياها مقدّمة واعدة لتجسير عبور المغرب نحو مرفأ الدول الديمقراطية. ثم جاءت مرحلة الخروج عن المنهجية الديمقراطية والتي نزعت خلالها بعض الأطراف القريبة من دوائر سيادية بالبلاد نحو الاستبداد بمفاصل الدولة والاستئثار بموارد الثروة. فكان الحزب في مقدمة القوى التي قاومت هذا التراجع والتي اختارت بوعي وإرادة تعميق التناقض مع هذه الجيوب على أرضية الانحياز المبدئي والواضح للاختيار الديمقراطي.
واستمر مناضلو ومناضلات الحزب، قيادة وقواعد، في مقاومة هذا التوجه الرامي إلى تجفيف منابع الدمقرطة قرابة عشر سنوات، مواجهين صنوفا من الادعاءات والتحرشات والتضييقات التي كانت ترمي إلى استبعاد الحزب من دائرة العمل السياسي الشرعي، وإن اقتضى الأمر حله أو تحميله المسؤولية المعنوية عن جرائم إرهابية لا علاقة له بها من قريب أو بعيد.
ثم جاءت لحظة الانتفاض العربي، والذي تفاعل معها جزء من الشارع المغربي من خلال حراك ديمقراطي رافعا شعار القضاء على الفساد والاستبداد. فكان الموقف المسؤول الذي طبع تعاطي الحزب مع تلك المستجدات، حيث حيّى عاليا مطالبها وتفهّم جيدا انتظاراتها ورافع قويا عن مطالبها وآمالها وآلامها، ولكن في إطار ما يضمن للوطن استقراره وللدولة استمرارها.
وهو النهج الذي ساهم في تجنيب التجربة الانتفاضية المغربية مآلات ما انتهت إليه بعض التجارب العربية التي إما سقطت مجددا في هوّة حكم الفرد وسلطوية الأنظمة المغلقة، أو لا زالت تتخبط مخاض حروب ونزاعات أهلية على أسس قبلية أو طائفية، والتي عمق من جروحها تنامي الأطماع الأجنبية الدولية والإقليمية الساعية إلى تكريس هيمنتها وتأكيد نفوذها والدفاع عن مصالحها واستهلاك خيرات المنطقة ومقدّراتها.
    •    شرعية التدبير الإصلاحي:
تمكنت تجربة حزب العدالة والتنمية في الإسهام في تدبير الشأن العام من تكذيب كثير من الادعاءات والاتهامات التي ما فتئ بعض النخب الفكرية والسياسية على إطلاقها في كل وقت وحين. والتي كانت في مجملها تنطلق من افتراض زائف مفاده أن المنشأ الاحتجاجي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية يجعلها أحزاب شعارات طوباوية وطموحات غير واقعية، لا قدرة لها على إنتاج سياسات واقعية وبرامج عملية بديلة. على اعتبار أن الأصول الاجتماعية لهذه الأحزاب والتي تنتمي في أغلبها إلى الطبقات المتوسطة وما دونها، يحول دون توفرها على الأطر والكوادر الكافية والمؤهلة لتدبير الشأن العام.
لقد فندت تجربة العدالة والتنمية الكثير من هذه الإدعاءات، وأظهرت للقاصي والداني أن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية زاخرة بالكفاءات والقدرات الحائزة لشرطي القوة والأمانة والماسكة بقدر وافي من المعرفة العلمية الرصينة والخبرة العملية الراسخة، ما يؤهلها لخوض غمار تدبير الشأن العام والتعاطي مع أسئلته ومعالجة إشكالاته الوطنية والترابية، من موقع صياغة وإنتاج التشريعات الملائمة ورسم وتنفيذ السياسات العمومية الناجعة.
عقدين من التدبير الترابي .. وعقد من التدبير الحكومي.. وربع قرن من الحضور البرلماني، مسافة زمنية طويلة، نسبيا، أثبتت أن حزب العدالة والتنمية لم يكن حزب شعارات إيديولوجية مسكونة بقضايا الهوية فقط، أو حزب مواقف مغرقة في العمومية يتقن خطابات الرفض والمعارضة؛ وإنما كان حزبا قادرا على المساهمة في إدارة مؤسسات الدولة وترتيب أمورها الاستراتيجية بحسب ما تسمح به معطيات الهندسة الدستورية من صلاحيات واختصاصات، وكذا المساهمة في تدبير الشأن العام الوطني والمجالي بما يكفل للمواطن عيشا كريما ويضمن له حقه العادل في الإفادة من خيرات هذا الوطن وثرواته.

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.