المعارضة التي نريد!

تريثنا قليلا قبل أن نتطرق لموضوع نموذج المعارضة التي سيسلكها حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة، رغم ما أثاره هذا الموضوع من نقاش سواء في الداخل الحزبي أو عند المتتبعين باختلاف مواقعهم، وتباين موقفهم من الحزب، ونظن أن صدور أول بلاغ للأمانة العامة للحزب، نهاية هذا الأسبوع كان كافيا وشافيا في بيان موقف الحزب وتحديد علاقته مع الحكومة الحالية، ويدل على ذلك حجم الاهتمام الإعلامي بهذه النقطة بالذات في التغطيات الإعلامية التي أعقبت صدور البلاغ، وهذا يؤكد أهمية موقع الحزب في المشهد السياسي الوطني، وحجم الانتظارات الكبيرة  المواطنين من هذا الحزب الحقيقي وذي الامتداد المجتمعي الذي لا يقبل التشكيك بغض النظر عن النتائج الانتخابية، وهي نتائج شابها الكثير من الاختلال مما يجعلها لا تقول كل الحقيقة، ولا تعبر أرقامُها عن الموقع الحقيقي للحزب في الخريطة السياسية وفي وجدان طيف كبير من المجتمع المغربي. ولمزيد من التوضيح نورد الملاحظات التالية:

موقع المعارضة الذي وجد الحزب نفسه فيه، ليس موقعا اختارته الإرادة الشعبية له وبوأته إياه، بل هو من مخرجات النتائج المعلنة لاستحقاق الثامن من شتنبر، وهي نتائج كما قلنا سابقا لا تعبر بحكم الشوائب التي شابتها عن واقع المشهد السياسي برمته وضمنه موقع الحزب الحقيقي داخله.  

ــ لابد من التنويه إلى أن المعارضة معارضات، فهناك المعارضة الميكانيكية، وهي للأسف تسربت إلى ممارستنا عبر استيراد نموذج سيء للديمقراطية، يسير بمنهج “إنا عكسنا”، ويضعنا أمام نماذج للمعارضة سريالية، فنجد مثلا حزبا كان في التسيير فبمجرد ما إن تطأ قدماه موقع المعارضة، يتحول بقدرة قادر إلى معارض لكل شيء وقد يعارض نفسه بمعارضته لقرارات أنتجها إبان توليه زمام التسيير، وهذا يضعف مصداقية الفاعل السياسي ويطعن في جدية الممارسة السياسية ككل وينعش العزوف واللامبالاة.

ــ وهناك صنف من المعارضة، من النوع الذي يقول عنه المغاربة “لي كياكل مع الذيب وكيبكي مع السارح”، وهو نموذج من المعارضة لا وجود له فيما أعتقد إلا في هذا البلد السعيد، فقد رأينا كيف تحول حزب الاستقلال لمعارض من داخل حكومة الأستاذ عبد الإله ابن كيران في نسختها الأولى، والتي كان يتولى فيها حقائب مهمة كالمالية والطاقة والمعادن والتربية الوطنية، بل إننا شهدنا أغرب قصص المعارضة والتي دامت ولاية حكومية كاملة ومن داخل الحكومة ويا للعجب !!!، حيث قام حزب “تستاهل الأحسن” وطيلة ولاية حكومة الدكتور سعد الدين العثماني، بالتبشير ببرنامج بديل اسماه “مسار الثقة”، يعد فيه المغاربة بوعود كبيرة ويضع فيه أولويات محددة، كأنه حزب معارض يبشر ببديل لوضع قائم، متناسيا أنه جزء أساسي من هذا الواقع، وهو بذلك وعوض أن يؤسس لمسار للثقة، يبطل آخر رمق فيما تبقى منها لدى المواطنين تجاه العملية السياسية والفاعلين فيها.    

ــ صنف آخر من المعارضة، سريالي في مضمونه وفي آلياته، يمكن أن نسميه: “المعارضة بأثر رجعي”، وهو ما قامت به وزيرة المالية ويقوم به حزبها عموما، فهذا الحزب الذي كان على مدى تاريخه مشاركا في كل الحكومات إلا في ما نذر، وبعد أن أصبح يتولى رئاسة الحكومة، أخذته شهوة المعارضة وبدا يصحح بالقلم الأحمر ما أسماه انتكاسات العشرية الأخيرة، وهو الذي كان عنصرا أساسيا في تدبير تلك المرحلة، بل هو من تولى أغلب الوزارات الأساسية في الاقتصاد الوطني من مالية وصناعة وتجارة وفلاحة وصيد بحري.

ــ والصنف الأخير هو “معارضة الموجة” وهو ما أسماه بلاغ الأمانة العامة ب “الجوقة”، وهي اصطناع رأي عام موجه، عوض أن يؤسس مواقفه على قناعات تنسجم مع المنطلقات وتحاول أن تبني رأيها على أسس متينة، ورؤية واضحة، تصبح كحاطب ليل، يلتقط كل شيء ُيقذف به في وسائل الإعلام دون تمحيص ولا استبانة لأهدافه ومراميه، وعوض أن تتحول المعارضة إلى فعل واع يتم تجريدها من مقومات العقلانية التي لا يمكن تحصيلها إلا بتفحص الأهداف بدقة ومقاربة المآلات بتروٍ ومسؤولية، وتصير المعارضة هنا تصريفا لأجندات خفية.

ــ هذا النوع الأخير من المعارضة ينتعش كثيرا بسبب الثورة الرقمية وانتشار منصات التواصل الاجتماعي، التي ترتكز على تقنيات معينة في تنمية نموذجها الاقتصادي، كتقنية “الانحياز التوكيدي”، التي تجعل الفرد يميل إلى رأي أغلبية ليست بالضرورة أغلبية حقيقية بل افتراضية وقد يكون الواقع على عكسها تماما، يتم كل ذلك عبر “حصار لولبي” في تناقل الخبر والتفاعل معه وتقاسمه، ولتيسير هذه الوظيفة التي تقوم بها وسائل التواصل الاجتماعي يتم التساهل مع الأخبار الزائفة FAKE NEWS بل إنعاشها والاقتيات منها، مما يجعل السجال السياسي عموما عوض أن يركز على المضامين الجوهرية، ينجر إلى الجزئيات التافهة والتفاصيل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي المحصلة تصير السياسة محطة لتدوير “نفايات وتفاهات” التواصل الاجتماعي.

ــ لابد من التأكيد على أن إشغال الرأي العام بمثل هذه المعارضة الفارغة من المضمون، في كثير من الأحيان يتم توظيفه لجرف الانتباه عن القضايا الأساسية، وترك قرارات مصيرية تمر دون أن يُنتبه لها ولوقعها على واقع ومستقبل المواطنين، وبالتالي فمن وظائف هذه المعارضة الإلهاء والإغراق في متاهات التفاصيل الفارغة من المعنى.

ــ وتأسيسا على كل ما سبق، فالمعارضة التي يريدها حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة حسب بلاغ الأمانة العامة، ليست معارضة “إنا عكسنا “.. وليست معارضة “الجوقة أو الموجة “.. وليست أيضا معارضة “التفاهة”، بل هي تلك معارضة واعية ومدركة لمآلات فعلها، متيقنة من جدية وفاعلية مضمونها.. مستقلة في قرارها متحررة من الأجندات والتوظيف المشبوه..متحررة من سلطة “التفاهة” التي تنعشها منصات التواصل الاجتماعي.. وهي تلك المعارضة التي تتسامى على حسابات المواقع وتنحاز لحساب الوطن، فتقول لمن أحسن أحسنت ولمن أساء أسأت بلا مركب نقص ولا عقد سياسية.

ــ حزب العدالة والتنمية ليس جديدا عن موقع المعارضة، بل مارس المعارضة في محطات تاريخية سابقة، وبكل تميز ومسؤولية، جعلت الجميع يحترمه ويقدر أدواره، اليوم الحزب مضطر لاستئناف ذلك الدور، ولتحمل مسؤوليته كما تقتضيها أعراف الممارسة السياسية النبيلة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.