محمد همام
في وداع جودت سعيد: منظر المقاومة المدنية السلمية في الفكر الاسلامي المعاصر(2)
كان جودت سعيد، رحمه الله، صاحب موهبة فلسفية تساؤلية، منذ صغره، على عادة الأطفال. وكانت والدته أكثر تسامحا مع شكه وسؤاله، على عادة الأم في مجتمعاتنا؛ تحمي طفلها، وتتستر عليه، إن اقتضى الأمر، وتقبل كل أسئلته. هي القلب الواسع والحضن الدافئ الذي كبرت فيه أسئلة جودت سعيد، وتشكلت أولى معالم شخصيته الفكرية، كما يحكي لعبد الجبار الرفاعي، في حوار مجلة (قضايا إسلامية معاصرة). كان ينتبه لكل ما يقوله الأستاذ في المدرسة الإبتدائية، ويركب من ذلك أسئلة مزعجة يلقي بها إلى أمه! لماذا نقرأ مثلا في درس الصلاة صيغتين للتشهد؛ واحدة مروية عن ابن عباس، والأخرى عن ابن مسعود؟ وذكرت له الوالدة أن الصيغة الصحيحة هي التي اختارها (الإمام الأعظم)! أبوحنيفة، وهو مذهبها! فيتساءل جودت سعيد الطفل: كيف يكون الوضع عندما تجيب والدة أخرى ولدها بأن الصيغة الصحيحة هي التي اختارها ( الامام الأعظم)! الشافعي؟ وهو مذهبها! وينطلق جودت سعيد من هذا التساؤل المبكر/تساؤل طفل صغير، ليقول بأنه التساؤل الفلسفي الكبير الذي مازال يشغل العالم؛ أي: كيف نعرف الخطأ والصواب؟ ليس بين المذاهب الفقهية وحسب، بل بين الأديان المختلفة، وبين المؤمنين والذين لايؤمنون. ويكبر السؤال ليصبح: كيف نعرف الحق؟ لذا كان هاجس: كيف أعرف؟ هو الذي حفز/ حتى لا أقول: أتعب جودة سعيد في مساره الفكري التساؤلي والشاق.
بلور جودت سعيد في مساره الفكري أطروحة تنطلق من أن مصدر المعرفة، بالنسبة له، هو: القرٱن والتاريخ. لذلك ترافع في مقدمة كتابه (مذهب ابن ٱدم الأول) ضد (الٱبائية)، ودعا إلى التخلص من مقولة (عصمة الٱباء)؛ إذ الٱبائية، بنظره، تحجب الرؤية الجديدة. مع أن تجاهل الٱباء مشكلة! لذلك كان ينوي إصدار كتاب بعنوان قرٱني ناقد للٱبائية هو: (بل أنتم بشر ممن خلق)/المادة/18. وهو الذي كان يعنون بعض كتبه بٱيات قرآنية: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)/الرعد/11، و: (إقرأ وربك الأكرم)/ العلق/3.، أو بعبارات مستلهمة من الحديث النبوي؛ مثل كتاب: (كن كابن ٱدم) /الألباني، صحيح الجامع/2431، وسنن الترمذي/2194…
ويذكر جودت سعيد أنه أسس لتصوره لمصادر المعرفة من خلال كتابات مالك بن نبي، عالم الاجتماع والعمران الجزائري (1905-1973)، وقد التقيا في مصر في منتصف القرن الماضي؛ فقد تأثر بفكرة رئيسة في كتاب مالك بن نبي (ميلاد مجتمع)، حول التاريخ والتغير والنمو، وحول مقولة( الزمن الميت)، مثل زمن النمل والنحل والحيوان، أما الإنسان فزمنه صيرورة مستمرة. فالٱبائية تدفعنا إلى الزمن الميت، والذي لاتطور فيه ولاتغير، فتتشكل معوقات حركية المجتمع ونموه. واصطدم جودت سعيد طالبا في الازهر بثقافة محافظة مكتنزة بتصور (الزمن الميت). تصور يحمل عنوانا هو: ٱخر الزمان! ويقوم على أن اليوم أسوأ من الأمس، والغد أسوء من اليوم، وأننا في ٱخر الزمان.
اقرأ أيضا