نور الدين يكتب:بداية حرب أوكرانيا ونهاية هيمنة الغرب

أحمد نور الدين

الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بدأت فجر الخميس 24 فبراير، ستشكل نقطة تحول في النظام العالمي القائم على أحادية القطبية منذ سقوط جدار برلين سنة 1989. ولعل تصرفات الولايات المتحدة كحاكم أوحد للعالم وتنصلها من التزاماتها وانسحابها بشكل أحادي من اتفاقيات دولية عديدة، وغزوها عسكريا لدول خارج قرارات مجلس الأمن، أو حصار دول أخرى بنفس المنطق، عجل بتصاعد تبرّم حلفائها وخصومها على حد سواء. وما نشاهده في أوكرانيا اليوم، ودون السقوط في تبرير قرار بوتن الذي ينتهك سيادة دولة جارة، هو نتيجة الإمعان في إهانة موسكو من خلال التنصل من كل التعهدات التي قطعها الغرب بعدم توسع حلف “الناتو” شرقا، وعدم نشر منظومة الصواريخ المتوسطة والقصيرة الأمد، بالإضافة إلى طرد روسيا من مجموعة G 7 للدول الصناعية الكبرى، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وصولا إلى ضم جمهوريات البلطيق السوفييتية سابقا إلى الحلف الاطلسي.
وبعد استيقاظ موسكو من غيبوبتها التي دامت عقدين من الزمن ما بعد السوفييتي، وبعد استعادتها بعضا من عافيتها الاقتصادية والدبلوماسية، تحركت لمنع ضم ما تبقى من الجمهوريات السوفييتية، فتدخلت عسكريا سنة 2008 على سبيل المثال في جورجيا ودعمت انفصال جمهورية أوسيتيا الجنوبية، ثم ضمت شبه جزيرة القرم سنة 2014، وبين هذا وذاك حاولت فتح جبهات جديدة لمواجهة الغرب في حرب غير تقليدية استخدمت فيها سلاح المرتزقة وأدوات الجيل الرابع من الحروب كشبكات التواصل الاجتماعي والهجمات الإلكترونية وقنوات التلفزيون الفضائية بكل اللغات، وغيرها، وكان من بين بؤر تلك الحروب إفريقيا الوسطى وسورية وليبيا وفنزويلا ومالي. وكان الهدف من وراء ذلك هو تملك أوراق للضغط على الغرب لإعادته إلى مائدة المفاوضات وتنفيذ التزاماته السابقة مع موسكو سنة 1997، والاعتراف لها بمنطقة نفوذ في محيطها المباشر. ولا شك أنّ أوكرانيا تحتل مكانة القلب في هذه الاستراتيجية الروسية لإعادة رسم مجالها الحيوي.
ولكن واشنطن استمرت في تجاهل مطالب روسيا ورفضت التعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف الاطلسي، وهو المطلب الرئيس لروسيا في قائمة المطالب التي قدمت بشأنها ورقة من عدة نقاط في المفاوضات التي جرت في جنيف يناير 2022 مع الإدارة الأمريكية ولم تفض إلى نتيجة. وكان بإمكان الغرب أن يستجيب لطلب القيصر، خاصة أنّ هناك سابقة مشابهة هي وضع فنلندا خلال الحرب الباردة، والذي لا يزال مستمراً إلى اليوم كبلد أوربي غير عضو في حلف “الناتو”.
ودون الخوض في مواضيع الشرعية الدولية والسيادة الأوكرانية وحقها في الانضمام إلى الحلف من عدمه، فإن بوتن رأى في السلوك الأمريكي تجاه أوكرانيا تهديداً استراتيجيا غير مبرر لأمن روسيا القومي، ليس على الصعيد العسكري فحسب، بل حتى على الصعيدين الاقتصادي والثقافي نظراً لخصوصية العلاقات التاريخية والإثنية بين موسكو وكييف. وأكثر من ذلك اعتبر الرئيس الروسي تجاهل واشنطن لمطالبه إهانة شخصية له، واحتقاراً للوزن الاستراتيجي لروسيا، فكان الهجوم على أوكرانيا مصحوبا بخطاب سيد الكرملين، بثه التلفزيون الرسمي صبيحة الهجوم، والذي توعد فيه بشكل واضح ومباشر الدول الأوربية وأمريكا بردّ فوري وغير مسبوق في التاريخ إذا غامرت باعتراض طريقه.
ولكن قبل ذلك الهجوم مرّ حدث دولي بارز دون إثارة الكثير من الضجيج، هو إعلان “الشراكة بلا حدود” بين الصين وروسيا، أثناء زيارة بوتن لبكين مطلع شهر فبراير، أي ثلاثة أسابيع قبل بدء الاجتياح، وقد صرح الرئيس الصيني في ذلك اللقاء بأنه يدعم مطالب روسيا بعدم ضم أوكرانيا لحلف “الناتو”. وفي المقابل أعلن الرئيس بوتن اعترافه بسيادة الصين على دولة تايوان.
وهنا مربط الفرس حول تداعيات غزو أوكرانيا على العلاقات الدولية والنظام العالمي، فهذا الإعلان بين الصين وروسيا يوحي بأن تفاهمات استراتيجية قد تمت بين الصين التي تحاربها واشنطن في ميدان التكنولوجيا والاقتصاد، وبين روسيا التي تحاربها واشنطن في الساحة الطاقية والأمنية والاستراتيجية، وربما يكون بوتن قد أحاط علماً زميله تشي جي بينغ قبل تحرك الجيش الأحمر تجاه أوكرانيا. وفي المقابل حصلت الصين على اعتراف صريح من روسيا بسيادتها على تايوان، وهو ما قد يمهد الطريق أمام التنين الأصفر للقيام بخطوة مماثلة لغزو تايوان في وقت لاحق بموافقة موسكو. وهذا سيحدث أكبر زلزال في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفييتي. ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب أوراق العالم ويؤذن بميلاد نظام دولي على أنقاض النظام الحالي أحادي القطبية الذي عمر ثلاثة عقود، والذي يوصف في كثير من الأحيان، حتى من قبل مراكز الدراسات الأوربية، بنظام الإمبراطورية الأمريكية.
ولعل من أبرز ملامح هذا النظام الجديد تلك “الشراكة بلا حدود” التي تمّ الإعلان عنها في الخامس من فبراير بين التنين الصيني والدب الروسي، والتي تشمل عقودا ضخمة لتوريد الغاز الروسي إلى الصين لضمان تدفق إمدادات الطاقة إلى الصين، وهي نقطة الضعف الكبيرة بالنسبة للقوة الصينية الصاعدة التي تعتمد على استيراد المحروقات بشكل شبه كلي من الخارج.
كما أن هذا التحالف بلا حدود سيمتد إلى مجال الفضاء والمجال العسكري، وقد نظم البلدان أكبر مناورات عسكرية عرفها التاريخ سنة 2018، بمشاركة أزيد من 300 ألف جندي وآلاف الطائرات والدبابات. وفي الجانب الاقتصادي سيشكل التمدد الصيني في إفريقيا وأمريكا اللاتينية “نهاية سيطرة الغرب على العالم”، التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنا في خطابه أمام السفراء يوم 27 غشت 2019.
وإذا كانت الصين قد تكفلت بإنهاء تلك الهيمنة اقتصاديا، فإنّ روسيا شرعت في الإجهاز على الإرث الاستعماري من خلال دخولها بقوة إلى دول الساحل وإفريقيا الوسطى، وقد تابعنا الطرد المهين للسفير الفرنسي من مالي، والدعوة إلى إنهاء عملية “بارخان”، وخروج القوات الفرنسية من هذا البلد، وتعويضها بقوات روسية.
نحن إذن أمام نهاية تبعية المستعمرات السابقة للمتروبول، كما أن ذلك بداية للانكماش الاقتصادي والاستراتيجي لأوربا التي وجد رؤساؤها، المجتمعون ليلة الخامس والعشرين فبراير، أنفسهم عاجزين عن اتخاذ عقوبات اقتصادية صارمة ضد روسيا، من قبيل فرض حصار شامل يطال الغاز الطبيعي الروسي، على سبيل المثال، الذي يشكل مورداً مهما لخزينة الكرملين. ولكن أوربا أضعف من أن تتخذ قرارا كهذا، لأنها تستورد أزيد من نصف احتياجاتها الطاقية من روسيا، ولا تمتلك بديلاً عنه في الوقت الراهن. وهذا المعطى جعل القرار الأمريكي بعزل روسيا عن النظام البنكي العالمي قرارا موقوف التنفيذ لأن ألمانيا والنمسا وإيطاليا وسلوفينيا وغيرها من الدول مضطرة إلى دفع مستحقات الغاز الروسي عبر هذا النظام البنكي. وهذا ما يفسّر الخلاف داخل البيت الأوربي حول سقف العقوبات ضد موسكو. وهذا مؤشر قوي على أنّ الكرملين أدخل في معادلة غزو أوكرانيا كل هذه العوامل، وأعد لذلك العدة سنوات قبل الإقدام على خطوته تلك، بينما كانت أوربا عاجزة عن استشراف أو توقع الكارثة.
وإذا كان غبار الحرب يحجب عنا الرؤية الآن لمعرفة من المستفيد أكثر ومن الخاسر الأكبر في هذه الحرب، فإن المؤكد هو أن النظام العالمي سيتغير، وأن قواعد اللعبة سيتم تحيينها، وعقارب الساعة سيتم ضبطها هذه المرة على توقيت بكين وموسكو وليس توقيت بروكسل وواشنطن.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.