بلال يكتب:تأثيرات الحرب على العالم العربي: هل يمكن تحويل المخاطر إلى فرص؟

بلال التليدي

ما من شك أن تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا ستكون مكلفة بالنسبة للعالم العربي، ليس فقط لأن الأمر يتعلق بهشاشة الأمن الغذائي، أو بتأثيرات ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والمواد الخام على الاقتصاديات العربية وعلى استقرار نسيجها الاجتماعي، ولكن لأن الأمر يرتبط أيضا بمعاملات استراتيجية وأمنية، ستزيد من إضعاف المعادلة العربية وتعميق ارتهانها.
عمليا، ثمة فرز عربي موضوعي، فمن جهة، هناك دول ستستفيد بدون شك من ارتفاع أسعار مصادر الطاقة، وستراكم ثروات مهمة، لم تكن تحلم بها في السابق. وفي الجهة المقابلة، ثمة دول أخرى، ستعاني كثيرا بسبب أن توقعات موازناتها المالية كانت تضع رقم 100 دولار كأقصى تقدير لسعر البرميل الواحد، وكانت تتوقع سقفا أقل بكثير من أسعار الغاز الطبيعي كما هي عليه اليوم.
لكن هذا الفرز الطبيعي الناتج عن وجود هذه المصادر عند دول، وانعدامها أو ندرتها عند دول أخرى، لا يعني ضرورة، أن حجم المخاطر سيكون أقل بالنسبة للدول التي تملك مصادر الطاقة، فهذه الدول ستكون عرضة أكثر لمخاطر الأمن الغذائي، فضلا عن كونها ستكون معرضة أكثر للضغط الدولي، لاسيما وأن من تداعيات الحرب المحتملة استعمال ورقة مصادر الطاقة كورقة في الصراع، سواء من قبل روسيا أو من قبل بعض دول الحلف الأطلسي، وفي هذه الحالة، سيكون الخيار المطروح هو مزيد من الضغط على دول الخليج من أجل تلبية الطلب، وربما استعمال معادلة (الطاقة في مقابل الأمن)، أو توظيف ورقة إيران وملفها النووي لممارسة الابتزاز على دول الخليج، والضغط عليها لتأمين حاجيات السوق الدولية، وبالأخص الحاجيات الأمريكية والأوروبية والبريطانية، بل من الممكن أن يتجه الضغط في منحى أكثر دراماتيكية، في حال ما استمرت الحرب، ولم تتمكن الضغوط الغربية من إفشال أجندة روسيا. فمن الممكن في هذه الحالة، الضغط على دول الخليج، لتمويل جزء من كلفة الحرب ضد روسيا، بحجة أنها تقوض الأمن العالمي، وأن هناك حاجة لتحالف أوسع لإيقاف خطرها.
صحيح أن سيناريو طول أمد الحرب الروسية على أوكرانيا، سيدفع إلى التسريع بالتسوية السياسية في ليبيا، حتى يتم تشغيل إمكاناتها النفطية، حتى يحصل التوازن في السوق الدولية، وهو ما يعني إيقاف نزيف صراع سياسي كانت له تداعيات إقليمية، وتسبب في اصطفافات عربية زادت من واقع التجزئة، لكن، في المقابل، فمن المرجح أن يدفع هذا السيناريو إلى التسريع في إبرام الاتفاق النووي مع إيران، حتى تضمن الولايات المتحدة الأمريكية تدفق نفطها في السوق العالمية، وتقلل بذلك الحاجة للنفط الروسي، وهو ما سيشكل تهديدا للأمن الخليجي، بحكم أن هذا السيناريو سيعزز الموقع التفاوضي لإيران، وسيجعلها تصر على إخراج موضوع نفوذها الإقليمي من طاولة التفاوض، بل ربما يدفع بها إلى مزيد من الاشتطاط، وتحقيق سقف أفضل من سقف الاتفاق النووي السابق (2015)، فورقة الرفع من نسبة تخصيب اليورانيوم، أصبحت جد مغرية لتحقيق مثل هذه التطلعات الاستراتيجية.
الدول العربية التي لا تمتلك مصادر الطاقة، أو التي تعيش على إيقاع صراعات سياسية، أو التي تبحث عن صيغة لاستعادة الاستقرار السياسي، ستجد نفسها أمام محدودية القدرة على مواجهة تداعيات هذا السيناريو (سيناريو طول أمد الحرب)، بل من الممكن أن تواجه احتقانات اجتماعية حادة، لاسيما في الدول التي لا تتوفر على مستوى من تأمين حاجيات الأمن الغذائي، أو التي لا تتوفر على إمكانات مالية لامتصاص أزمة ارتفاع الأسعار.

المشكلة أن بعض الدول العربية لا تملك في أجندتها أي خيار سوى انتظار نهاية الحرب، وتحقيق هدوء نسبي في الجبهة، وحصول تسوية ما، تمكن من تأمين تدفق مصادر الطاقة والحبوب والمواد الخام، في حين بدأت بعض الدول العربية، بالقيام بخطوات استباقية للتفاوض مع بعض الدول، بشكل منفرد، لتأمين حاجياتها المستقبلية، دون أن تحصل على ضمانات في هذا الاتجاه.
تحليل اتجاهات الوضع الدولي ضمن التطورات المتسارعة، يفيد بأن الخيارات المنفردة لحل الأزمة، واستباق المجهول، لن تكون مجدية، فالتحولات المتوقعة، يمكن أن تعصف بكل هذه التفاهمات، وأن المقاربة لا بد أن تكون جماعية، ضمن جواب استراتيجي وسياسي، يستثمر اللحظة، ويسعى إلى تحويل المخاطر إلى فرص واعدة.
عمليا، ثمة خميرة جاهزة تجعل هذا الجواب ممكنا، فالموقف العربي في عمومه، نأى بنفسه عن الاصطفاف، وفضل تبني رؤية متوازنة، تتفهم مصالح روسيا من جهة، وترفض الخيار العسكري في تحقيقها، وتدعو إلى ضبط النفس وتبني الحوار والأدوات الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق بين دول الدول الغربية وبين موسكو، بما يجعل أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة على أراضيها، وألا تكون أداة لتصفية الصراع بين هذين الطرفين. أي أن العالم العربي، اختار العودة إلى الصيغة القديمة المتجددة، صيغة دول عدم الانحياز، في تدبير تعاطيها مع أزمة صراع المحورين الشرقي والغربي، لكنه إلى اليوم، لم يباشر أي دينامية تحالفية مع نظرائه من الدول التي اختارت الموقف نفسه، فلم تتجه الدول العربية جهة الهند، ولا جهة تركيا، ولا جهة ماليزيا، ولا جهة باكستان، وإنما فضلت تبني خيار انتظاري يمكن أن يكلفها كثيرا، ويجعل إيران تستفرد بالفرصة لوحدها، وتحقق ما لم تستطع أن تحققه خلال الجولات التي أخذت زمنا ممتدا في فيينا.
تركيا اليوم في وضع جد صعب، كونها عضوا في الناتو، وكونها لم تصطف إلى جانبه في الحرب ضد روسيا، ولا في إيقاع عقوبات اقتصادية ضدها، وفضلت المحافظة على علاقاتها مع كل من موسكو وكييف، ولعب دور الوساطة بينهما.
الوضع الجيوستراتيجي لتركيا يؤهلها لتحويل المخاطر المحتملة إلى فرص، فموسكو لن تجد أفضل من أنقرة للتحلل من وقع العقوبات الاقتصادية، ومن المحتمل أن تصير تركيا الرئة التي ستتنفس منها موسكو. لكن وجود جواب عربي جماعي إلى جانب الموقف التركي، سيساعد العالم العربي من تأمين حاجياته، كما سيساعده أيضا من التخفف من كثير من الضغوط الدولية، وسيبدد الكثير من الغيوم التي تمنع بناء جسور استراتيجية بين أنقرة والعالم العربي.
صحيح أنه وقعت انعطافة مهمة من أنقرة اتجاه الإمارات، وأنها تعتزم التوجه نحو الرياض لطي صفحة التوتر بين البلدين، لكن، الشروط التي خلقتها الحرب الروسية على أوكرانيا، تتطلب جوابا أعلى من هذا السقف، فالخيارات التي توجد في طاولة الدول العربية أصبحت جد محدودة، والتهديد الإيراني سيزداد، ليس فقط في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل يمكن أن يمتد التهديد إلى دول الخليج نفسها، وهو ما يستوجب إعادة تقييم الموقف لجهة بناء موقف عربي جماعي، يقترب من الثلاثي الإسلامي (تركيا وباكستان وماليزيا)، ويحيي صيغة دول عدم الانحياز، ويحولها إلى تكتل سياسي واقتصادي، له تموقعه الاستراتيجي في العالم.
لا مؤشرات على وجود دينامية من هذا النوع، بل المؤشرات الأولى، تظهر عدم استقرار في الموقف العربي، فالإمارات غيرت موقفها بشكل سريع، والسعودية، لا يرجح أن تبقى على موقفها المحافظ على تفاهمات “أوبك+”، ومن المحتمل في المدى القريب أن تساير دول الخليج الطلب الأمريكي في زيادة إنتاج النفط لمواجهة ارتفاع أسعاره، وأن يقع ضغط مماثل على الدول العربية المصدرة للغاز لكي تعطي أولوية في تلبية الطلب الخارجي للدول الغربية.
ثمة إمكانية عربية لمواجهة هذه المخاطر الجدية التي ستترتب عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وثمة خيار جدي لتحويل هذه التحديات إلى فرصة تاريخية، فقد تهيأت شروط التحالف التاريخي بين العالم العربي والقوى الثلاث الإسلامية (تركيا، وباكستان، وماليزيا)، وتهيأت معها شروط التحلل من الارتهان غير الخادم للمصالح الاستراتيجية العربية، لكن عدم التقاط هذه الفرصة التاريخية والاستمرار في استصحاب الحالة الانتظارية، ستزيد الوضع العربي تجزئة، وسيضاعف من التحديات الأمنية والسياسية، ومن الممكن أن تتعرض دول عربية أخرى إلى أزمة استقرار سياسي.

نقلا عن القدس العربي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.