رحموني يحذر من مغبة عودة قوى الردة والاستبداد والفساد

خالد رحموني*
 
من هشاشة التجربة الديمقراطية في المغرب المعاصر، أن التحديات التي تبرز بين الفينة والأخرى تُصوَّر في أذهان الناس على أنها مخاطر، تهدد مرحلة الانتقال الديمقراطي برمته وترسم كابوس الانتكاس في نهايتها، وكأننا في هزيعها الأخير. وقد كنا في طيف من التغيير لا حقيقة له ووهم للإصلاح مجازي ومؤقت لا امتداد له في المستقبل.
ورغم أن هذه التحديات غير مسلم ببلوغها هذا المستوى من الخطورة والفداحة، فإن مؤشرات مُقلقة تحيل على إمكانية أن تصير الخطورة حاصلة لا متوقعة، وهذا ما يؤكد أن مناقشة ذلك الهاجس، لن تكون عديمة الفائدة سياسيا وفكريا ونفسيا، فالاقتناع بهذا الرأي أو ذاك غير خاضع في أغلبه لقياس موضوعي مجرد، لمجريات الأحداث والوقائع في المشهد السياسي العام وبالضبط في المرحلة التي تمر منها البلاد.

 بل إن إثارة النقاش حول المخاطر المحتملة والمتوقعة يجعل للأمر أهدافا سياسية وفكرية تعكس انشغالات وتوجسات عند البعض، وقد تكون انعكاسا للوضع النفسي والاجتماعي والمزاج الشقي والعنيد عند البعض الآخر.
ومع ذلك لنفترض، نسجا على منهج البرهان بالخُلْف، أن بعض التحديات تمثل بالفعل خطرا حقيقيا مُحدقا على مسار الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، ولنتقدم خطوة في هذا الاتجاه، لنتساءل عن أشد هذه التحديات خطورة على منطق الإصلاح وقواه وبرنامجه في المرحلة؟


إعادة إنتاج التسلطية
إنه بمجرد الحديث عن هذه التحديات، يتبادر إلى الذهن خطر عودة المنظومة التسلطية السابقة للتأثير بأثر رجعي في الواقع والتشكيك في المكتسبات وصد مسار الإصلاح عن بلوغ منتهاه ومراميه ومقاصده.
وهي ظاهرة طبيعية تعيشها كل الثورات والانتقالات والتحولات والحركات الإصلاحية في اتجاه الديمقراطية والاستنهاض المجتمعي العام والشامل، فليس من السهل بمكان أن يفرط أصحاب الامتيازات وشبكات المصالح ومن يستفيد من موائد النظام التسلطي المخزني التقليدي العتيق، ومن يتضرر من الوضع الجديد. ليس من السهل أن ينفطم هؤلاء وأولئك عن مصّ دماء الكادحين وعرقهم من أبناء هذا الشعب واستلاب إرادتهم ومصادرة اختياراتهم وحرياتهم وحقوقهم، وكرامتهم وآمالهم وأحلامهم.
لقد انصب جهد هذا الفريق، في البداية، على الصد والممانعة أمام كل تغيير محتمل سواء كان في الاختيارات أو القرارات أو السياسات أو القيادات أو التعيينات في الإدارة العمومية حتى قبل إجرائها ومباشرتها، حتى أننا نلمس من بعض المنابر الإعلامية ذات الولاءات المعروفة والأجندات المكشوفة، ومن بين رجالات الأعمال وبعض من المحسوبين زورا على المثقفين والفنانين وزمرة من قيادات الأجهزة الأمنية وبعض رجالات السلطة الترابية. نرى منهم أجمعين، وخلال أدائهم وسلوكم العام، تشويشا مقصودا على المرحلة، وإمعانا في المناكفة والتعتيم وتسويد الغيوم والضباب الكثيف على الفضاء العمومي، من خلال الإمعان في إعادة إنتاج نفس الأساليب الريعية والتضليلية والرمزية والقمعية القديمة والبائدة، سواء في التعاطي مع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية والتعبيرات السياسية والشبابية بذات الأسلوب المُهين للكرامة والمصادر لحريات التجمع والتظاهر السلمي والتعبير المسؤول، أو التعامل مع ما نضحت به المرحلة من تطورات وتعبيرات في الاحتجاج المدني والتعبير السياسي وتصاعد الطلب الاجتماعي.
فشاهدنا عملية عصيان منظم ورفض الانصياع للإرادة السياسية الجديدة والقيادة التنفيذية المنبثقة عن الإرادة الشعبية، ومحاولات من أطراف عدة غايتها إعاقة محاولات الإصلاح وفرملة مساره ونسف خطواته وبرامجه، سعيا منها لقيادة التمرد المنظم ولكن المتخفي من وراء الستار، والمتسربل بالعمل المؤسساتي الشرعي.

بل إن أوّل من استفاد من ثمار مسلسل الإصلاح الديمقراطي المتمخض عن الحراك الشعبي، هم طاقم إداري واسع من المديرين والمديرين العامين ورؤساء المؤسسات العمومية، وفي تواطؤ واضح بين بعض من قوى الجمود المتخفية بين أجنحة السلطات العليا والمتمترسة في ثنايا مؤسسات الدولة، تلك القوى وجدت نفسها ممثلة في المئات من الموظفين والإداريين الذين ترصعت الإدارة العليا بقرارات ترقيتهم أو تنصيبهم أو تثبيتهم وتسميتهم وتعيينهم من جديد، وصدرت في شأنهم قرارات حتى قبل تنصيب الحكومة الجديدة المنبثقة عن الانتخابات السابقة لأوانها.
لكن الذي تبين فيما بعد، أن ذلك لم يكن عفويا بل صار مُبرمجا بشكل منهجي، ولا تلاحقه فقط شبهة سوء استغلال السلطة والشطط في استعمالها، بل كان استعدادا مُفكرا فيه للمرحلة الراهنة، وتأليفا لقلوب بعض التابعين ذوي الولاء السلطوي المكشوف والبين، وتمكينا لبعض “الفُلول” من قوى الردة والنخب التسلطية ذات الانحدارات والأصول التقنوقراطية أوالبيروقراطية ، أو أولئك من ذوي الميول الايديلوجية الحاقدة والولاءات السافرة لبؤر الاستبداد ومراكز الفساد، مع العمل على تمكينها من التمركز في مواقع حساسة في بنية الدولة والتسرب لمفاصلها، واستعدادا منها لإدارة معركة إفشال الحكومة المنتخبة ذات الشرعية الشعبية ومُحاولة النيل من سلطتها والتعدي على مجالها في تدبير السلطة التنفيذية، إذا ما حاولت القيام بأية تغييرات عميقة حقيقية وجذرية في اتجاه تصحيح الاختلالات الموجودة في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري.

بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فحكومة تصريف الأعمال التي ترأسها عباس الفاسي نفسه، وعلى حين غرة منها ربما، والتي سلمت السلطة للحكومة المنتخبة والشرعية، كانت ملزمة أخلاقيا وسياسيا بأن تعد مشروع الميزانية العامة للسنة الجديدة التي ستدخل عليها حكومة ابن كيران، لكنها وقعت في الفضيحة المعروفة بسحب القانون المالي بعد إيداعه لدى مجلس النواب، كمحاولة للإرباك وإثارة العوائق أمام سير مرافق الدولة والإدارة العمومية ، واشتغل مهندسو القرار لصالح وزير ماليتها الموعود في حينه بتسلم قيادة التدبير العمومي وفق الصيغة التي أوعزت للنخب التسلطية باقتراح G8 كبديل مرحلي يلف فيه صيغة الحزب الأغلبي PAM بعد ما استنفذت أغراضها وتصاعدت مطالبات شعبية بضرورة تفكيكه لأنه يرمز للسلطوية والاستبداد .
ورغم الإيفاء الشكلي بهذا الالتزام، فإن ما تضمنته هذه الميزانية من “مطبات” لا يمكن أن يعكس إلا إرادة واعية بوضع العراقيل أمام عمل الحكومة الجديدة المنتخبة شعبيا.
فهل يعقل أن تكون ميزانية 2012 خالية من عناوين الدمقرطة والعدالة الاجتماعية والإقلاع الاقتصادي والتنمية الشاملة والاستجابة للطلب الاجتماعي في الخدمات العمومية، ولا تتضمن غير اعتماد التصرف والتجهيز.
لقد تفاجأ الطاقم الحكومي الجديد بفلسفة الميزانية وبمعطياتها الموغلة في تزييف الأرقام، وبقي دورها مقتصرا خلال السنة الجديدة على دفع رواتب الموظفين والرفع من ميزانية التسيير، وضمان تدبير المرافق العامة والمؤسسات الإدارية .
هذه الميزانية “الكيدية” دفعت أحزاب الائتلاف الحكومي المتشكل والوليد، عقب التنصيب البرلماني، إلى العمل على إعداد ميزانية جديدة انتقالية. وضيعت بسبب ذلك بضعة أشهر من عمرها وانتظرنا ردحا من الزمن غير يسير حتى يصادق البرلمان بغرفتيه على هذه الميزانية، لتأخذ طريقها إلى الإنجاز رغم كونها لا تعكس قسمات وملامح البرنامج المتعاقد حوله، ولا ملامح المرحلة التي نتصدى لاستحقاقاتها.
واستباقا لما كان يتوقعه البعض من الحاقدين والسلطويين السائرين في ركب البيروقراط والتقنوقراط، من عجز الحكومة عن الخروج من هذه المكيدة المصيدة، نجدهم الآن يسارعون إلى إعلان فشل الحكومة وعجزها، طارحين مبادرتهم للإنقاذ بعد تشكيل الحكومة الجديدة وبعد خروجهم من الحكومة قهرا ومن مواقع النفوذ والتأثير، ومنذرين بالمحق والثبور.
وعوض أن يلتزم البعض منهم بواجب التحفظ السياسي وممارسة الصمت الأخلاقي كما نرى في كل الديمقراطيات في العالم، يخرج قادتهم الفاشلون والمهزومون ديمقراطيا على الشعب المغربي في المنابر الإعلامية بخطاب ارتجالي متصلب لا يليق برجالات الدولة الحقيقيين والديمقراطيين.

تحالف قوى التسلطية المحافظة: اليمين الإداري، اليسار الانتهازي، الرأسمال الطفيلي
 
أمام فشل كل هذه المحاولات لإرباك الوضع السياسي الموسوم بالانتقال الديمقراطي في المغرب، لم يبق أمام فريق الفلول وكتائب الاستبداد والردة إلا التشكل في كيانات جديدة قديمة وحركات سميت احتجاجية ووظفت كل الآليات المتاحة للتشويش والتعويق والإثارة والتحريض واشتق أصحابها لها أسماء مشتقة من الحقل الدلالي للقوى المتطرفة التي تعادي ذات النزعات الاستئصالية و الإقصائية، واستأنسوا لكون القوس الإصلاحي الذي فتح آن أوان إغلاقه من جديد وإحكام إقفاله .
هذا الفريق من بقايا الاستبداد والنكوص استفاد من التراخي في إعادة بناء منظومة قانونية تستجيب لمطالب الحراك الشعبي المنادي بعزل رموزهم وطردهم من الحقل السياسي والمسؤوليات العمومية والإدارية والاعتبارية، وإبداع إجراءات تضمن عدم عودة فلول النظام التسلطي، ليحصلوا من جديد على تأشيرات سياسية لإعادة مبادرتهم للعمل في الحقل العام بعد ما طالب الشارع السياسي بنبذهم وطردهم والمطالبة برحيلهم، في انتظار تطبيع وجودهم السياسي من خلال ما قد يبتزونه من شرعية سياسية وربما حتى أخلاقية من الدولة مستعملين في ذلك كل وسائل الضغط السياسي والإعلامي المادي والرمزي .

يتكون هذا السديم السلطوي المتشكل والذي يوهم بممارسة المعارضة المؤسساتية لصالح قوى الردة الديمقراطية من ثلاث مجموعات رئيسة، استمرت على امتداد ربع قرن في تحالف وثيق في ظل حكم التسلط والتحكم، وحّدها الاستبداد ويوحّدها اليوم الحنين لإعادة استنساخه وإنتاجه من جديد.
تتكون المجموعة الأولى من اليمين الإداري المؤتلف مع النخب “البامية” من الأعيان ومفسدي الانتخابات ومع بقية من اليسار الرسمي والممتدة تشكيلاته أفقيا عبر البنيات الوسطى والمركزية للإدارة، وعموديا في مختلف الجهات وأجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات عمومية. وهي مجموعة تمثل العمق الاجتماعي للنظام التسلطي السابق على الحراك الديمقراطي ويأمل أصحاب هذا الفريق أن تستمر في أداء نفس الدور خلال المرحلة القادمة.
أما المجموعة الثانية فتتشكل من شريحة من رأس المال الفاسد الذي استفاد من امتيازات النظام التحكمي والتسلطي في المرحلة السابقة وكان ظهيره باستمرار التقت مصالحهم بمصالح النظام العميق للدولة على امتداد مرحلة حكم النخب الفاسدة. وهم غير مستعدين للتفريط في امتيازاتهم ويعتبرون انخراطهم في القوى المضادة للإصلاح استثمارا في إعادة استنبات وضع يستفيدون منه.
وأما الثالثة، فتتكون من اليسار الانتهازي الذي دشن تجربة التخندق مع البنية المخزنية للسلطة السياسية منذ اجتماع إرادته بقوى الدولة العميقة العتيقة المخزنية ،حيث وضع هؤلاء إستراتيجية جديدة تقوم على أولوية التحالف مع السلطة الاستبدادية لمقاومة المد الديمقراطي الوطني والإسلامي حتى وإن أدى ذلك إلى الحريق الكبير الذي أتى على أجيال من أبناء الشعب المغربي .
تمثل هذه المجموعات أكبر الخاسرين بسقوط الصيغة التسلطية للنظام السياسي المتشكل إبان الاثنى عشر سنة الماضية، بل إن الكثير من أعضائها تورطوا وأدينوا سياسيا وقانونيا بسبب ما اقترفوه في حق هذا الشعب.
ولأنهم يتوقعون أن يساقوا إلى الانكشاف في المحاكم وفضح جرائمهم في الإعلام وأمام الشعب، نراهم يتدثرون بالعمل السياسي والحقوقي والمدني والمعارض لما يوفر لهم من حصانة اعتبارية وسياسية وبما يوفر لهم من فرصة جديدة لاستعادة هيمنتهم على الدولة والمجتمع.
في هذا السياق فقط، يمكن فهم لماذا يحاول حزبهم السري المتخفي والمتجلي علنا في كيانات أبرزها الحزب النكوصي السلطوي الذي كان ينظر للاستبداد بصيغ حداثية ؟ لماذا يحميه من المحاسبة الشرسة وييسر له الاستفادة من المكامن الخِبْريّة داخل مؤسسات الدولة، وفي مفاصل المجتمع ومن شبكة العلاقات الواسعة والمصالح المعقدة في الواقع ومن الدبلوماسية المحافظة مع بقايا النظام الرسمي العربي ومع أطراف غربية تنازعها تيارات الهيمنة الاستعمارية.
إن إستراتيجية تحالف قوى الاستبداد في استعادة المبادرة 
تتراوح استراتيجيات هذا الفريق والتحالف الاستبدادي الجديد، الذي يحاول أن يستعيد المبادرة من جديد، في محاولة منه للانقلاب على دينامية التحول السياسي والانتقال الديمقراطي الجارية، وهو يتوزع بذلك بين سيناريوهين اثنين :  

الأوّل بالعمل على إسقاط الحكومة وإفشالها والتشويش على منجزها السياسي والتنموي قبل موعد الانتخابات الجماعية ، ويتوسلون لذلك بالتحريض المقيت في الشارع والتحريض على العصيان والتخطيط للانقلاب العنفوي الرمزي أو الكيدي على الشرعية الدستورية ممثلة في الحكومة الحالية أساسا، ومحاولة مصادمة المؤسسات الدستورية بعضها ببعض، ومحاولات الالتفاف على الصلاحيات الدستورية وقضم مساحات السلطة المفوضة شعبيا ودستوريا لرئيس الحكومة ، واستمالة بعض الأطراف السياسية الحليفة تقليديا للتسلطية السياسية والثقافية على قاعدة بلورة الخطوات الموحدة للتعاطي مع العدو المشترك وإعاقة المارد الديمقراطي القادم تحت عناوين تصعيد المواجهة الأيديولوجية والمجابهة الثقافية تحت مسمى أن التناقض بين قوى الحداثة حسب فهمهم لها وقوى المحافظة وليس التناقض الرئيسي مع الاستبداد من أجل البناء الديمقراطي.
تكون نتيجة ذلك إنهاء مسار العمل التأسيسي للحكومة الشرعية المنتخبة في المرحلة الانتقالية الحالية ، وإطلاق طريق العودة للتوازنات السياسية القديمة القائمة على احتكارية السلطة من طرف النخب المغربة التقليدية والانعزالية التي ليس لها صلة بالشعب والمفصولة جينيا عن آفاقه وتطلعاته وجذوره وزبونية الأطراف والهوامش .
وهم يستعجلون هذا المنهج والأسلوب لقطع الطريق أمام صدور قوانين تنظيمية وعادية وفق المخطط التشريعي القاصدة لحماية مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي وإقرار العدالة وإصلاح القضاء وتفكيك بنيات الفساد العمومي والريع الاقتصادي في ذات المرحلة الانتقالية وتشكيل المشهد السياسي بشكل نهائي لصالح قوى الإصلاح الديمقراطي الحقيقية .
أما السيناريو الثاني، الذي يحدث به أنصار هذا التيار أنفسهم فهو المتعلق بالانتخابات الجماعية القادمة. فبالاعتماد على آلة زبونية وسلطوية مرتبطة بشبكة الأعيان والقوى التي ليست لها مصلحة في التغيير والخبيرة في تزوير إرادة الناخبين والتوسل بترسانة إعلامية قوية وبإمكانيات لوجستية ضخمة، نجحت إلى حد الآن في تشويه صورة دينامية الإصلاح الشامل وقواها الرئيسية وبتمويل من “بارونات” الفساد ودعم مشبوه بات واضحا من أطراف معروفة رهاناتها في التعويق الديمقراطي والكبح السياسي، بكل هذه الأعمدة يأمل هذا الفريق إدراك فوز أو شبه فوز في الانتخابات القادمة بل ونهج سياسة التعتيم وقضم الاختصاصات والصلاحيات وتبخيس المنجزات .

إنه من الطبيعي أن تتشكل هذه القوى وتنتظم دفاعا عن مصالحها، بعيدا عن كل اعتبار أخلاقي أو فكري وسياسي نبيل ، لكن ما يلفت الانتباه أن بعض القوى السياسية المعارضة سواء المؤسساتية منها أو غير البرلمانية، لم تنجح إلى الآن في إشباع رؤاها وبرامجها بمطالب الإصلاح الجذري ولم توفّق في تبين خصوصية المرحلة والالتفات إلى ضرورة إنجاح رهانات الانتقال الديمقراطي والقطع مع القوى الاستبدادية ومحاولة الانتباه إلى تصعيد التناقض الرئيسي في مواجهتها ،فالصراع يجب أن يتركز بين القوى الديمقراطية والقوى الاستبدادية ودونه تمويه للصراع وتضييع لإمكانات المرحلة الانتقالية. فنرى بعضها يتناسى سنواته الطويلة من الصراع مع الاستبداد ويمد يده للتحالف مع امتداداته بعد الحراك الشعبي الديمقراطي. ورغم الضغط الشعبي والشبابي خاصة يصر هذا الفريق على الاستمرار في خطئه الإستراتيجي وحتى اللحظة الراهنة.
بل إن قراءة المرحلة وطبيعتها وأولوياتها وعمق التحولات المطلوبة ما زالت غائبة عن تقديرات هذا الفريق من الطبقة السياسية . يقوده الخوف من الآخر وعقدة الاستبداد ولكن أيضا حساباته الانتهازية والمكيافيلية الأنانية الضيقة، لذلك نراه يخوض معركة خاسرة لأنها مبنية على معطيات خاطئة بالقطع .

لقد تسرع هذا البعض من نخب هذا التشكيل الحسن النية في مد يد النجاة للنظام التسلطي عندما كان يتهاوى بإثارة الانتباه لقضايا وهمية وثانوية، كما استعجل في جني ثمار الإصلاح والمد الديمقراطي لمّا رضي بتجديد المنظومة القديمة ورفض مسار النضال من أجل إقرار مشروع انتقال ديمقراطي سليم وسلس، فمثل قوة معارضة رئيسية في مواجهة القوة المنتجة انتخابيا والممثلة بعمق لتطلعات المرحلة.
ونسجا على نفس المنوال في عدم التجانس مع روح هذه المرحلة التبست أولويات هذا البعض، وعوض أن يكون ديدنه إنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي والقطع مع الماضي أصبح خطرا على مسار الإصلاح ذاته وعائقا أمام تحقيق مطالبه الجوهرية في إقرار العدالة الاجتماعية وتحقيق الكرامة الإنسانية وتكريس الحريات العامة وبناء نظام سياسي قوامه الملكية البرلمانية المبنية على الفصل بين السلطات حيث الشعب يكون مصدرا لها، وعاكسا للإرادة الغالبة للمواطنين وبناء دولة القانون حيث القرار العمومي مرتبط بعقد الشرعية الانتخابية.
واليوم يستعد هذا الفريق لخوض معركة جديدة ضد المشاريع الإصلاحية لحكومة الانتقال الديمقراطي : قانون المالية الحالي المقر لإجراءات تكرس العدالة الاجتماعية و القوانين المضمنة في المخطط التشريعي وقوانين وسياسات أخرى تقصد إلى تحصين البلاد سياسيا لحماية مسار الإصلاح والانتقال من خطر الردة السياسية والديمقراطية .
فديمقراطية الإصلاح في المرحلة الراهنة غير الديمقراطية الليبرالية التعددية الشكلية في المطلق، أنها تبتغي إسقاط الاستبداد وسد منابع الفساد، وهي مهمة لا تقل في أبعادها الإستراتيجية عن مهمة تحرير البلاد من الاستعمار ونيل الاستقلال المحرز في 1956.

إنها مهام تاريخية بحجم المعارك الكبرى، لذلك فمثلما انتصبت محاكم القضاء لتجريد الخونة والمتعاونين مع الاستعمار الفرنسي من إمكانية ممارسة العمل السياسي في فجر الاستقلال، فإن القوانين التاريخية لحماية مسار الإصلاح الديمقراطي في هته المرحلة الانتقالية يجب أن تعمل على حرمان رموز الفساد والاستبداد وناشطي القوى السلطوية التي تبتغي الردة الديمقراطية وفرملة المسار ،حرمانها من فرصة العودة السياسية لعرقلة مسار الانتقال الديمقراطي الحقيقي الجاري .
لكن بسبب من تداخل فضاءات العمل العام، نرى هذا الفريق يحاول إرباك الوضع العام أحيانا من داخل المؤسسات الدستورية أو من خلال تجييش الإعلام واستعمال الضغط الخارجي والاستعداد للتحالف مع قوى الردة. الاتهام الأبرز الذي يسوّقه هذا الفريق يتمثل في التشكيك في قدرة الحكومة على قيادة عملية بناء الديمقراطية الناشئة واتهام نواياها وكفاءتها لتدبير الحكم واستحقاقاته.
وفي الحقيقة لم تقم الحكومة ولا الأحزاب المكونة لها بكثير من الجهد لتهدئة هذه المخاوف وتبديد كل الشكوك. فالآن وبعد أشهر قاربت السنة من تشكيل الحكومة الائتلافية لم يعد مقبولا استمرار هذا الغموض والتردد والارتباك الذي يلف الأفق السياسي للمرحلة القادمة.
تحتاج الحكومة ومن ورائها الأحزاب المتحالفة، وفي طليعتها حزب العدالة والتنمية، طرح رؤيتها السياسية على طاولة الحوار السياسي والنقاش الوطني، وأن ترسم “رزنامة” المحطات المتوقعة فيما يتعلق باستكمال حلقات البناء الديمقراطي من خلال إقرار إجراءات ترمي إلى تكريس الإصلاح السياسي والمؤسساتي وإعادة بناء الحقل الانتخابي على قواعد جديدة مؤسسة على النزاهة ومحاربة الفساد الانتخابي الذي هو حلقة أكيدة للدفع بالعملية الديمقراطية لمنتهاها وتجريدها من أعطابها المستحكمة فيها لعقود من الزمن ، والدفع إلى ابعد مدى في اتجاه تكريس استقلالية ونزاهة القضاء، وإدخال الإعلام إلى زمن الإصلاح.

 ومطلوب من الائتلاف الحاكم بقيادة العدالة والتنمية خاصة ضبط سياساته في مقاومة الفساد وتفكيك بنيات الاستبداد السلطوي والإداري وتطهير الدولة من فلول نخب الجمود والنكوص، وإقرار المناهج اللازمة للإسراع بإصلاح حقل العدالة، والقضاء على اقتصاد الريع والاقتصاد الإنتاجي ذي السيادة والاستقلالية والمبني على التضامن والتنافسية .
ربما يفسر هذا البطء في وضع هذه الرؤية وطرحها في الساحة الوطنية بسلبيات العمل الائتلافي حيث تتفاوت الرؤى والمقاربات والرهانات ربما، الأمر الذي يفترض قدرة عالية على تنسيق آليات الحوار الطويل والمضني بين الفرقاء والديمقراطيين والذين لهم مصلحة في التغيير . 
إننا في حاجة، كما كل الديمقراطيين والبلاد برمتها ،إلى تأسيس كتلة تاريخية حاضنة للإصلاح وحامية لمساره وراعية لاتجاهه ومحفزة لإجراءاته، كتلة تمثل حركة إبداع فريد لنضال ومبادرات الإصلاح الديمقراطي، تحمي الأمل وترعاه ،حتى ينضاف لإبداعات شباب تاق يوما لمغرب مغاير حر وديمقراطي مغرب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، مغرب ممكن، جدير بكل المخلصين فيه من قوى التقدم الديمقراطي، هدا التطلع يعكس الدعم المشروط الذي تواجهه الحكومة من أنصارها المطالبين بفاعلية الإجراءات وسرعة الإنجاز ووضوح الرؤى وقوة الجرأة في الإصلاح.
إن للإصلاح زمن، وميزان قوى، ونخب، ومصالح، وقوى دافعة، وأخرى كابحة، له مواقف، ومواقع، وترددات، وقوة في الحسم.
 
*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.