ابن كيران والمقاصة.. الوطن هو البوصلة

المحجوب لال

واهمٌ من يعتقد أن السياسة الحقيقية هي إرضاء الجماهير أو العامة، كلا، إنّ “السياسة الحقيقية هي سياسة الحقيقة”، مهما كانت كلفتها، ولذلك حين وضع الأستاذ عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة الأسبق، يده على المقاصة لإيقاف نزيف الميزانية العامة، وجد أن الجرح غائر وخطر، وأن كلفة العلاج ستكون من المداوي نفسه ومن شعبيته وحظ حزبه الانتخابي قبل أي أحد آخر.
غير أن ابن كيران كانت بوصلته السياسية والإصلاحية واضحة، ولذلك ما انفك يردد أن الوطن أولا، مهما تطلب ذلك من كلفة وتضحيات، وبناءً عليه، انبرى بكل جدية في مواجهة هذا الملف الحارق، سلاحه في ذلك “سياسة الحقيقة”، تلك السياسة التي تعني مصارحة الشعب بالوقائع والحقائق والأرقام، وتبيان المقصود والمرام من الإصلاح، بلغة مباشرة وواضحة.
هذا الوضوح، جعله ينحت مصطلحات قادرة على الإيصال والتبليغ والإقناع، فكان قوله “إلى عاش النسر عاش ولادوا”، كناية على أن قوة الشعب ورفاهيته من قوة الدولة، والعكس صحيح كذلك، وقال أيضا بـ “تحرير الدولة من السريفة إلي على عنقها”، كناية على حالة الاختناق التي كانت تعانيها الميزانية العامة بسبب المقاصة، كما وصف الأموال التي كانت تُمنح للمستفيدين الكبار من المقاصة بمثل “القادوس” أو الأنبوب الذي تمر منه هذه الأموال الطائلة دون أن تكون هناك وسيلة لمراقبة حقيقية ودقيقة لما يُقدم للحكومة من أوراق بغية الحصول على الأموال.
تحرير المالية العامة شهد به فوزي لقجع حين قدّم لابن كيران آخر فاتورة تتعلق بدعم المحروقات، حيث قال مدير الميزانية لرئيس الحكومة، إنّه يريد الاحتفاظ بتلك الوثيقة، لأنها تاريخية، ولأنها شاهدة على تحرير المالية العامة من الحبل الذي كاد يخنقها. وفي هذا الأسبوع، جدد لقجع، وهذه المرة بوصفه وزيرا للميزانية، التأكيد أنه لا مجال لإعادة المحروقات إلى صندوق المقاصة، وإلا قال المغاربة سلام على المخصصات المالية المرصودة للصحة والتعليم والأمن والاستثمار وغيرها.
إن هذه الشهادة، لهي الدليل الأكبر، من مسؤول حكومي وعمومي، يعي حقيقة الوضع المالي، بأن الإصلاح الذي باشرته حكومة ابن كيران، كان لصالح الوطن والمواطنين، إذ حافظ على توازن الميزانية العامة، من جهة، ومن جهة أخرى، أتاح للحكومات المتعاقبة، فرصا مالية أكبر لبدء سياسات وبرامج اجتماعية وترابية كبيرة، ما كان بالإمكان القيام بها لولا الإصلاح التاريخي الذي شرع فيه ابن كيران لملف المحروقات، بكل تجرد ومسؤولية.
واليوم، ما يزال بالإمكان المضي في إصلاح المقاصة، عبر توجيه الدعم المخصص للغاز والسكر والدقيق بشكل مباشر إلى مستحقيه، وقد أشار ابن كيران في غير ما مرة، إلى أن هذا الدعم الذي قد يصل إلى 1000 درهم شهرية، يمكن أن يستهدف مليون أسرة مغربية، بما يحقق الغاية الحقيقية للدعم، فيخفف من ارتفاع الأسعار عن كاهل الطبقات الهشة والمعوزة والنائية، تلك الفئات التي لا تسأل الناس إلحافا.
صحيح أن هؤلاء لا يجدون من يدافع عنهم بالنقابات أو الهيئات المنظمة، إلا أن الدولة واجب عليها النظر إليهم ووضعهم على رأس أولوياتها، ومن بمقدوره أن يفعل سوى من جعل المصلحة الحقيقية للوطن والمواطن فوق كل اعتبار، وهل ينكر أي مغربي أن ابن كيران قدمَّ الدليل تلو الدليل، أنه كان من هؤلاء وما يزال.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.