“ثمّة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد”، هكذا لخص المثقف الراحل عبد الوهاب المسيري، في أحد كتبه تبعية العالم العربي للغرب تبعية عمياء دون دراية، قبل أن يجيب ويؤكد في كتاب آخر أن “التقدّم الغربي هو ثمرة نهب العالم الثالث وأن الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه.”
بهذه العبارات الخالدة وغيرها استطاع فكر عبد الوهاب المسيري أن يظل خالدا بين الناس يتداولونه لراهنيته ولواقعتيه، فهو يشرح الظاهرة ويبحث في الأسباب ويُعطي النتائج، فالمسيرى رحل عن هذه الدنيا لكن ذكراه ظلت خالدة بموساعاته الرائدة، وبأفكاره التي سعت إلى الرقي بالإنسان خاصة العربي وإعلاء كلمته.
حلت أمس ذكرى رحيل المثقف الكبير المسيرى والتي تصادف 3 يوليوز من كل عام، والعالم يستحضر معها رحيل أيقونة الثقافة والفكر، إذ يعتبر أحد أبرز المفكرين العرب والمسلمين في العصر الحديث، فقد تميز بإعادة التفكير في النماذج السائدة وطرق التفكير المنتشرة والعمل على تطويرها، وتميز المسيري بأنه مفكر منهجي، يعتمد على النماذج التفسيرية والتحليلية التي طورها في أبحاثه المختلفة، وقد تُرجم عدد من أعماله إلى لغات عديدة.
ولذلك اعتبر المسيري مفكرا عربيا استثنائيا لكونه مثقفا في حالة “اشتباك” مع الواقع يمارس التظاهر والاحتجاج والتنظيم السياسي، وأكاديميا مثقفا يعمل في حقول معرفية متعددة منها دراسات الحداثة والمادية الغربية والعلمنة واليهودية والصهيونية، والأدب الإنجليزي والنقد الأدبي، وحتى موضوعات مرتبطة بالتاريخ والمجتمع كتب فيها بتخصص وأصالة ومنهجية ذات حس جمالي وتحليلي وذات تجديد معرفي ومفاهيمي غير معتاد.
المسيري.. البدايات
رأى المسيري النور في 8 أكتوبر عام 1938 بمدينة دمنهور التابعة لمحافظة البحيرة شمال مصر، وهناك نشأ وأتم تعليمه الابتدائي والثانوي، وفي عام 1955م انتقل إلى الإسكندرية للالتحاق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، وتخرج فيها عام 1959م، ثم عيِّن معيدًا بعد تخرجه في الكلية ذاتها.
بعد ذلك ذهب إلى الولايات المتحدة في عام 1963م لدراسة الماجستير والدكتوراه، فحصل من جامعة كولومبيا بنيويورك على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن عام 1964م، ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة رتجرز بولاية نيو جيرسي عام 1969م.
وبعد أن أنهى الدكتور المسيري مسيرته التعليمية الطويلة، عاد من الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلده مصر ليكمل مسيرته العملية، فكانت أولى خطواته في هذه المرحلة أن عمل بالتدريس في كلية البنات بجامعة عين شمس، ثم تنقل بعد ذلك بين عدد من الجامعات في مختلف الدول العربية مثل جامعة الكويت، وجامعة الملك سعود، التي عمل فيها مدة تزيد على خمس سنوات في الفترة من 1983م إلى 1988م.
وقد عمل المسيري أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، مثل الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وأكاديمية ناصر العسكريَّة، وتولى منصب عضو في مجلس الخبراء بمركز الأهرام للدراسات السياسيَّة والاستراتيجية في الفترة من 1970م إلى 1975م.
وترقى الدكتور عبد الوهاب المسيري في المناصب بعد ذلك، ففي الفترة من 1975م إلى 1979م عمل مستشارًا ثقافيًّا لوفد جامعة الدول العربية الدائم لدى هيئَة الأمم المتَّحدة، وبعد هذه الفترة عمل عضوًا في مجلس الأمناء الخاص بجامعة العلوم الإسلامية بمدينة بليسبرج في ولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
كما استعين به بعد ذلك لكي يكون مستشارًا للتحرير في العديد من المجلات التي كانت تصدر في دول مختلفة عربية وأجنبية منها: دولة إيران ودولة ماليزيا ودولة فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية.
المسيري.. مفكر عالمي
“المسيري مفكّر عربي بسياق عالمي، لا يقلُّ عن دوركايم وفيبر وابن خلدون”. وهذا ليس قولنا، وإنما هو اعتراف وشهادة من أحد أكبر المؤرخين الغربيين، وهو المؤرخ الأمريكي كافين رايلي، الذي سبق أن ترجم له عبد الوهاب المسيري رفقة زوجته الدكتورة هدى حجازي، أحد أهم أعماله: “الغرب والعالم”، وهو كتاب ضخم في جزئين.
ووفق مقال نشره عربي بوست بعنوان” قارع كبار المفكرين الغربيين لكننا لم نوفِّه حقه.. لماذا يجب أن تقرأ لعبد الوهاب المسيري؟ ، فهذه الترجمة جاءت ضمن اهتمام المسيري الذي كان يشتغل في نقد التمركز الغربي، وجاء ذلك في سياق إعداده لموسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية”، والتي استغرقت من حياته ربع قرن من البحث والدراسة، ومن خلال هذا بلور مشروعاً فكرياً ضخماً، يقسم إلى قسمين مترابطين، فالأول يفكك اليهود والصهيونية، والثاني يقوم على نقد الحداثة الغربية. وقد خلص المسيري إلى أن الصهيونية هي إحدى إفرازات الحضارة الغربية، وإحدى مظاهر أزمة الحداثة.
إصدارات متنوعة
يعتبر المسيري من أهم الشخصيات العربية التي بحثت وفككت المشروع “الإسرائيلي”. وقد أصدر في هذا الجانب العديد من المؤلفات: “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد” (ثمانية مجلدات)، “رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في البذور والجذور والثمار”، “كتاب الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد”، “كتاب في الخطاب والمصطلح الصهيوني: دراسة نظرية وتطبيقية”، “كتاب الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى”، “كتاب الجمعيات السرية في العالم: البروتوكولات، الماسونية، البهائية”، “كتاب الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية: دراسة في الإدراك والكرامة”.
وللدكتور المسيري مؤلفات أخرى في موضوعات شتى من أهمها: “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”(جزأين)، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (سبعة أجزاء). كما له مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأميركية مثل: الفردوس الأرضي، والفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، والحداثة وما بعد الحداثة، ودراسات معرفية في الحداثة الغربية.وله دراسات لغوية وأدبية من أهمها: اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، ودراسات في الشعر والأدب والفكر. كما صدر له ديوان شعر بعنوان “أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية”. وقد نشر المسيري أيضا قصصاً عدة وديوان شعر للأطفال.
انطفأت شمعة المسيري في الثالث من يوليوز 2008 لكن عطاءه ما زال مستمرا، وما زالت أفكاره وكتبه تمتع براهنية متجددة تجعل منه رغم الغياب حاضرا وبقوة في المشهد الثقافي العربي.
رابط المشاركة :
شاهد أيضا