رحموني يكتب : في الحاجة إلى استعادة ألمعية المفكر أبي زيد المقرئ الادريسي

خالد رحموني*
 في أواخر ثمانينات القرن الماضي ومطلع تسعيناته، وقبل حلول الألفية، استشرت الاديولوجيات العديدة واكتسحت واستوطنت ساحة الجامعات والفضاءات الجماهيرية والشبابية، وأشاعت حملة شرسة على البلاد والعباد وجرفت نخبا وأجيالا وجماهير ومثقفين، باستخدام مجموعة من الذين احترفوا زيف الكلام في نبرة تضليل طافحة بالدجل الفكري والعمى الايديولوجي.
 
لم تسمح، وقتها القبضة السلطوية ولا نزعة المحافظة الفكرية لبعض الدعاة المعروفين بمواجهة تلك الحملة الكالحة الكاسحة بعمق وروية وعلم وقوة في الطرح، ورغم أن منهم من حاول غير أنه تم اسكاته سريعا، أو خر منهارا لتقليدانية ديباجاته النظرية ومنطقه المحدود الخبرة في المناظرة والمساجلة.
 يومها كنا شبابا يافعين صاعدين، ونحن صغار في السن، لكن أحلامنا كانت بحجم أمة، شباب كان يواجه حربا مفاجئة غير متكافئة، وكنا معها غير مستعدين ولا مدركين لأبعادها المديدة، وسط خذلان واضح من الكثيرين وإهمال كثير من الموجهين في الفكر والتربية، وقتها وللمرة الأولى تقابلت مع أبي زيد المقرئ الادريسي، الاسم الذي كان يستخدمه في طلعاته ومناظراته، حسبته بادي الرأي والطلعة قارئا لكتاب الله، فإذا بي اكتشف كنزا ورمزا بالفعل “قارئ غير تقليدي ولا ممل لكتاب الله بطريقة تستدمج التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والفكر والفقه والعلاقات الدولية والأدب والعلوم المعاصرة وغيرها في وعي الدين وعيشه، وإعادة اكتشافه من جديد”.

كانت بدايتنا، نحن الشباب المتجايل تقريبا، وكنا مع ثلة من رفاق الدرب لا زالت  صورهم في ذاكرتي، فردا فردا، لكنني كنت مشغولا برد الشبهات بمنطق الرد والدفاع بمنهج تقليدي مكرور ورتيب، حتى التقيته، فاذا بنمط تفكيري ومنهجه يتغير جملة.
 
لقد كان مهموماً بنقد المنظومات الفكرية والأنساق العقائدية من داخلها وهو ما ثبت فيما بعد أنه كان الأسلوب الأنجع والأكثر تأثيرا.
حين قابلت أبا زيد للمرة الأولى لم أشاهد باحثا باردا مجردا يفتش في الأنساق الفكرية لنقدها وتفكيكها، لكني قابلت باحثاً مهووسا بالأمة وقضاياها وفي مركزها فلسطين الجريحة والحبيبة.
 كان يبحث في تلك المنظومات ليفهمها ويهضمها ليتمكن من افهامها ونقدها..ابتعد للوهلة الأولى عن ترديد الخلافات الشائعة والتناقضات الشهيرة التي يرددها الكثيرون وتفرغ للدخول لقلب الفكر النقدي الحقيقي، لمعالجة صلب المشكلات التي كانت تعتور الفكر الاسلامي والاصلاحي جملة بالنقد والتحليل والاستشراف، على مدار سنوات بعدها كان هو فارس المناظرة العامة بامتياز، الذي قهر جميع من واجهوه وأصبح الشبح الذي يهرب منه جميع النظار والمساجلين بلا استثناء.
 عرفته في ساحة الجامعات والمنتديات واللقاءات والمسامرات والمداولات والنقاشات ، وتنكرت له أقنية الاعلام ووسائط الاتصال الجماهيرية على أنواعها بسبق ترصد واصرار ومصادرة بعدما مر ذات لمحة خلسة فيها، فكان الظاهرة وتم من قبلهم الاجهاز والمصادرة ، إلى يوم الناس هذا ، إنه الحظر والحصار على فارس يعشق الحرية ، في الموقف والموقع فكرا ونهجا.
كنت قريبا منه روحيا وفكريا على مدار سنوات، وكنت المح في داخله نفساً شفافة رشيقة وخفيفة، وهمةً عالة صادقة وصافية، ورقة في الطبع أنيقة وعريقة، تدل على اخلاص وطيبة شديدتين، له في القلب مكان غائر، وفي النفس رهافة أصيلة، وفي الطبع سلاسة يانعة، وفي المراس دفئ سلس منساب، يتوغل فيك حبا وألفة ووثاقة، وحين اقتربت منه اكتشفت مدى طيبة قلبه ودماثة أخلاقه، وحبه لهذا الدين الذي لا تخالطه حزبية ولا تعصب ولا هوى أو تحيز .
وحين قامت دواعي الاصلاح كان في مقدمة الصفوف،
وحين استكان البعض كان في مقدمة الرافضين للمهادنة.
عرفه الجميع، حائطا للصد الاسلامي عجز عن اختراقه الجميع،
لكني عرفته أيضا باحثا مجتهدا يسهر الليالي في البحث والتحضير والاعداد لمناظراته ومحاوراته ومحاضراته، وعرفته أخا قريبا طيب القلب صادق الهم مرهف الحس، وعرفته مناضلا ثائرا صادقا في دعوته ثابتا في موقفه عزيزا بدينه.
صعب علىّ أن أكتب لامتدح شخصاً حياً.. وأصعب من ذاك أن يكون صديقاً ولو باعدت بيننا المسافات من داخل رقعة الوطن..لكنها مجرد كلمات بسيطة تعبر عن امتنان الصادقين جميعا لهذا الفارس العظيم.
وددت لو أن المشروع الاصلاحي يعرف قدر الرجل ومكانته ويدفع به إلى الصفوف الأمامية، كما عهدناه فارسا مغوارا، ومجادلا جسورا، ومنافحا عن الحق وصامدا عند الجدال والنقاش مقنعا بعمق، هي لمسة وفاء، وعبارات عرفان وصدق، من صديق وتلميذ وأخ، يرنو ليوم قريب أن نستعيد الدور في مرحلة العطاء حيث فيها يعدل بناء أمة،  لنعمل على استعادة الدور بما يتجاوز الاحتفاء النوستالجي، والاستدعاء الاحتفالي.
نحتاج إلى أمثال أبي زيد لمواصلة مسيرة التنوير الفكري، والتثوير السياسي، والتطوير المنهجي، والتجاوز النقدي،  فلنتعاون على هذا المسعى.
وندائي إلى كل الخلص الاوفياء، أن ما دبجته سالفا محض لمحة بارقة، وليس اطراء باذخا، ولا نزعة شخصانية شاردة ولا متعلقة بالرموز، بل أعتقد أنها اشراقة وفاء، لأن المشروع الاصلاحي في المغرب يكبر بالرموز ويتألق بهم وبمزيد عطائهم ووفائهم للخط التجديدي النقدي المثابر، وأبي زيد في طليعتهم،  نحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، دمتم للوفاء أوفياء.

عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.