عبد اللطيف بروحو* يكتب عن “أسس وخلفيات وقف تنفيذ نفقات الاستثمار”

13.04.15
عرف المغرب خلال الأيام الأخيرة لغطا كبيرا حول قرار الحكومة القاضي بوقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار بالميزانية العامة، واختلفت ردود الفعل بين من يناقش الأسس الدستورية والقانونية لهذا الإجراء، وبين من يستدعي البعدين الاقتصادي والاجتماعي وآثاره عليهما، ومن يركز على الشق السياسي في الموضوع.

واختلت التأويلات بخصوص صحة هذا الإجراء من عدمها، وتزايدت الخرجات الإعلامية لبعض زعماء الأحزاب من الأغلبية والمعارضة إما لمعارضة هذا الإجراء من أساسه أو لتبريره وشرح حيثياته للرأي العام.

إلا أن النقاش لم يكن في الواقع ينصب بالأساس حول خلفيات وأسباب هذا الإجراء حتى يفهم المواطن مضامينه ويدرك آثاره، وإنما انحرف النقاش عن هذا المستوى ليدخل من جديد في متاهات الجدل العقيم، فلا نكاد نجد في خطابات زعماء أحزاب المعارضة ولا في خطاب حميد شباط نفسه كجزء من الأغلبية أية أجوبة بخصوص هذا الإجراء.

آليات تقليص نفقات الاستثمار:
في غياب أي نقاش علمي، على المستويات القانونية والاقتصادية والمالية، ضاعت المعطيات والمبررات والمؤشرات الحقيقية المرتبطة بهذا الإجراء، ولم يعد المتتبع ولا الرأي العام يعرف ماذا يحدث، خاصة وأن هذا الإجراء كانت تقوم به بطرق مختلفة جميع الحكومات السابقة دون أن تسلك المساطر والشكليات القانونية والواضحة من أجل ذلك، بحيث كانت دائما مديرية الميزانية بوزارة المالية تتحكم في تفويض الاعتمادات الخاصة بنفقات الاستثمار.

فهذه المديرية كانت تعتبر الآلية التي تستطيع بها وزارة المالية تقليص وتيرة الإنفاق على مستوى ميزانية الاستثمار، ولم تكن خطاطات ميزانيات التجهيز تمنح للقطاعات الوزارية لتنفيذها إلا ما بعد شهر يونيو من السنة المالية، ولم يتم البدء في إنجازها يتم إلا شهري أكتوبر ونونبر من كل سنة، وبالتالي تبقى أجزاء كبيرة من نفقات الاستثمار غير منجزة خلال السنة المالية المعنية ليتم ترحيلها للسنوات الموالية.
وبالتالي كانت هذه الآلية دائما تستعمل لتعطيل جزئي أو لفرملة تنفيذ أجزاء هامة من ميزانية الاستثمار دون أن يتم الإعلان عن ذلك صراحة ودون أن يتم إخبار الرأي العام بذلك، لهذا نجد دائما أن الاعتمادات المرحلة والتي لم يتم إنجازها تفوق نسبتها 45% ، وخلال السنة الموالية يقوم الوزراء ومندوبيهم بصرف هذه النفقات المرحلة بدءا من شهر مارس أو أبريل.
لذا يمكن القول هنا أن لجوء الحكومة الحالية لاتخاذ هذا الإجراء بشكل علني يدخل في إطار شفافية التدبير المالي العمومي، وتأكيدا لمنهج الصدق والصراحة والوضوح مع الرأي العام ومع الفاعلين الاقتصاديين، على الرغم من أن هذا الإعلان له كلفته السياسية على سمعتها، حتى وإن كانت تقوم بإجراء وقائي لحماية التوازنات المالية وتطلع الرأي العام على إجرائها وعلى تفاصيل تدبيرها للشأن العام على هذا المستوى.

الأساس القانوني لوقف تنفيذ الاستثمارات:
حاول العديد من السياسيين وحتى بعض الأكاديميين مناقشة الأساس الدستوري والقانوني لهذا الإجراء الذي أقدمت عليه الحكومة، وكثر بالتالي الجدل حول هذا الموضوع، في حين أن النقاش يجب أن ينصب بالأساس حول حقيقة الوضعية المالية ونتائج تراكم العجز الهيكلي الذي ميز قوانين المالية السنوية منذ أزيد من سبع سنوات.
فمن حيث الأساس الدستوري، يتعين التأكيد أولا أن هذه العملية التي أقدمت عليها الحكومية تجد أساسها في المادة 45 من القانون التنظيمي للمالية والمادة 11 من المرسوم المتعلق بإعداد وتنفيذ الميزانية، وهي النصوص التي تعود لسنة 1998، وحرص آنذاك وزير المالية في حكومة التناوب على إدراجها بهذه الصيغة، رغم أنه كان يعلم بأن هذه المقتضيات تعطي الحق بشكل مطلق للحكومة في مجال تنفيذ الاستثمارات العمومية من عدمه سواء بصفة جزئية أو بصفة شبه كلية.
فالمادة 45 من القانون التنظيمي للمالية تنص صراحة على أن الحكومة يمكنها أثناء السنة المالية أن تقوم “بوقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار إذا استلزمت ذلك الظروف الاقتصادية والمالية”، وهو الأمر الذي أكدته صراحة المادة 11 من المرسوم المتعلق بإعداد وتنفيذ الميزانية.
وإذا ما عدنا لأحكام الدستور الجديد، فسنجد الفصل 75 جاء بمعظم المقتضيات التي كانت ضمن دستور 1996، باستثناء بعض التفاصيل المتعلقة بالبرامج متعددة السنوات، وتعويض مخطط التنمية الذي كان في الدستور السابق”بالمخططات التنموية الاستراتيجية”، أما ما عدا هذه الجزئيات فقد حافظ الفصل 75 تقريبا على نفس الأحكام التي كان يتضمنها الفصل 50 من دستور 1996، وبالتالي لا مجال هنا للقول بأن المادة 45 من القانون التنظيمي للمالية أصبحت تخالف الدستور الجديد.
أما عبارة المخططات التنموية الاستراتيجية المنصوص عليها في الفصل 75 من الدستور الجديد، فقد حلت محل العبارة السابقة التي كانت تحيل في نفس الأحكام على مخطط التنمية، وباعتبار أن الحكومة الحالية والسابقة لم يقوما بتقديم أي مخطط أو برمجة متعددة السنوات طبقا لأحكام الفصل 75، ولم تطلع البرلمان على أي برامج بهذا الخصوص، فلا يمكن إدراج الاستثمارات العمومية المنصوص عليها في القانون المالي ضمن الفقرة الثانية من هذا الفصل والتي ترتب أحكاما خاصة تتعلق بمراجعة اعتمادات ميزانية الاستثمار المرتبطة بها.
وعلى هذا الأساس يتعين القول بأن المادة 45 من القانون التنظيمي للمالية الحالي لا زالت موافقة للدستور الجديد، ولا يوجب أي سبب يدفع في اتجاه تعطيلها أو يمنع اللجوء إليها.
وبالتالي، وخلافا لما تداوله بعض السياسيين والمتتبعين، تعتبر هذه العملية التي أقدمت عليها الحكومة إجراءا قانونيا يُمنح عند الحالات الخاصة والضرورية لتمكينها من وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار أثناء السنة المالية بسبب الظرفية الاقتصادية والمالية، مع إخبار لجان المالية بمجلسي البرلمان، وتعتبر إجراء موافقا للدستور ولا يشوبه أي خرق للميثاق الأساسي للمملكة، خلافا لما يحاول بعض زعماء المعارضة تويجه إما عن جهل بالقانون أو عن قصد بهدف إحراج الحكومة أمام الرأي العام.

الخلفيات السياسية والتدبيرية لهذا الإجراء:
إن التأكيد على قانونية هذا الإجراء ومطابقته للدستور الجديد للمملكة لا يفيد بالضرورة إلغاء النقاش السياسي حول مدى فعالية ونجاعة هذا الإجراء، ولا حول مدى ملاءمته فعليا للظرفية الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المغرب.
فهذا الأمر متاح لجميع الفرقاء السياسيين ولجميع الفاعلين الاقتصاديين والمتتبعين على حد سواء، على اعتبار أن التقدير الحكومي قابل بطبيعته للنقاش وللدراسة، كما هو قابل لهامش الخطأ والصواب، خاصة وأن التقدير السياسي للحكومة مرتبط بالمعطيات والمؤشرات التي يقدمها وزير المالية، والذي يُفترض أن يكون قد أقنع بها أعضاء الحكومة ورئيسها، ولا شك أن وزير المالية نزار بركة قدم مبررات يراها أساسية وضرورية وتقتضي تطبيق هذا الإجراء، كما يُفترض أن يكون قد ناقش قبل ذلك باقي السيناريوهات والاحتمالات ليصل إلى قناعته التي دافع عنها أمام الحكومة بخصوص هذا الإجراء.
وعلى هذا الأساس تكون الحكومة قد اقتنعت بدفوعات ومبررات وزير المالية نزار بركة، والتي قدمها أمام رئيس الحكومة وجميع أعضائها من جميع الأحزاب المشكلة للحكومة ومن باقي الوزراء المستقلين، ولا يُفترض هنا أن يكون أحد أعضاء الحكومة قد اعترض على هذا الإجراء أو حتى طالب بتأجيل البت فيه للتشاور مع الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية.
وبهذا تكون الحكومة قد اقتنعت وقدرت خلال اجتماعها ذاك أن الظرفية الاقتصادية والمالية للمغرب تقتضي توقيف تنفيذ جزء من نفقات الاستثمار، بما يعادل مبلغ 15 مليار درهم، وهو أمر لا شك أنه كان محط نقاش مستفيض داخل المجلس الحكومي، ويبقى في نهاية الأمر وزير المالية هو المسؤول قانونيا وسياسيا عن تقديم أسباب وخلفيات هذا المقترح وهو من يتحمل عبء إقناع رئيس الحكومة وباقي أعضائها بجدواه وبأهميته وبضرورة اعتماده عبر مرسوم طبقا للقانون التنظيمي للمالية.
ويُفترض هنا أيضا أن يكون جميع أعضاء الحكومة قد ناقش وزير المالية حول حيثيات هذا القرار وتأثيراته المحتملة على الاقتصاد الوطني، وأن يكون كل عضو في الحكومة قد اقتنع بهذا الإجراء.
ومع هذا الوضع اعتبرت الحكومة أن الوضع الاقتصادي والمالي يتطلب التخفيض من نفقات الاستثمار عبر وقف تنفيذ جزء منها، وهو إجراء رغم أنه قانوني إلا أن الظرف السياسي الحالي يجعل التحفظ عليه أكثر حدة من قبل جميع الأطراف.

تفاقم العجز المالي ومبررات هذا الإجراء:
أمام تفاقم العجز المالي منذ سنة 2008، بدأت مؤشرات خطيرة تتعلق بطرق تدبير المالية العمومية وبالاختيارات والسياسات المتبعة على هذا المستوى، بحيث أصبحت الحكومة السابقة تسارع للاقتراض من الخارج لتغطية العجز المالي قبل حدوثه دون أن تستحضر التأثير متوسط المدى لهذه الاختيارات، وبمقابل ذلك كانت تبالغ في الرفع من النفقات الاستهلاكية دون أن يوازيها رفع مماثل للموارد العادية للميزانية، وفي نهاية المطاف وجد المغرب نفسه مع نهاية سنة 2011 في مأزق مالي خطير بدأت آثاره المباشرة تضغط بقوة على المالية العمومية منذ بداية 2012.
فرغم التحفظ الذي يمكن أن يبديه أي طرف تجاه قرار وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار، فإن الحكومة وبناء على المعطيات التي قدمها وزير المالية قدرت أن وصول عجز الميزانية لهذا المستوى البنيوي والمتراكم منذ سنة 2008، والذي وصل مداه سنتي 2011 و2012 كان عاملا حاسما في اتخاذ هذا القرار، خاصة بعد أن قامت عدة أطراف داخل الأغلبية الحكومية وخارجها بعرقلة إصلاح صندوق المقاصة وصناديق التقاعد، وهي الإجراءات التي كانت ستخفف الضغط على الميزانية العامة للدولة.
فمجموع الموارد العادية للميزانية العامة لا تتعدى 230 مليار درهم، في حين أن نفقات الموظفين تستهلك حوالي 100 مليار درهم، ونفقات صندوق المقاصة ستفوق هذه السنة 60 مليار درهم، ونفقات الدين العمومي بدورها ستقارب مع نهاية سنة 2013 ما مجموعه 40 مليار درهم، وبالتالي ستمتص هذه النفقات الإجبارية أزيد من 90 % من الموارد العادية المتوقعة للميزانية، وإذا أضفنا عليها باقي نفقات الجزء الأول من الميزانية (المواد والخدمات) فإن ميزانية التسيير وحدها ستتجاوز مجموع الموارد العادية المتوقعة في قانون المالية 2013.
وبمقابل ذلك، وللتغطية على تأزم الوضع المالي منذ سنة2010، كانت الحكومة السابقة تلجأ لأشد الوسائل تأثيرا على المالية العامة وهي الاقتراض من الخارج، وهي بدائل خطيرة تظهر آثارها على المدى المتوسط (من ثلاث إلى خمس سنوات).
فبعد أن كانت نسبة تغطية نفقات الدين منخفضة بشكل إيجابي قبل 2007، سارع وزير المالية السابق لإعادة إطلاق دورة واسعة للاستدانة من الخارج نظرا لأن هذه الإمكانية كانت متاحة، ولم يقم بما يلزم من إعادة النظر في طرق تدبير المال العام وبترشيد الإنفاق ورفع موارد الدولة.
ومع تزايد الحاجة لتمويل الميزانية، بدأت نسبة الاستدانة ترتفع لاستباق العجز قبل وقوعه، وهذه الآلية كانت تؤدي لتأخير الأزمة وتأجيل الكارثة ولم تكن تؤدي لحل الإشكال، وبالتالي وجدت الدولة نفسها مع بداية سنة 2012تؤدي أقساط قروض متراكمة على الميزانية العامة منذ 2008.
فبعد أن كانت نسب النفقات التي تصرف لإرجاع الديون الداخلية والخارجية من الميزانية لا تتعدى 12 مليار درهم سنويا قبل 2007، بدأت الحكومة السابقة في سلسلة من التمويلات الخارجية منذ سنة 2008 للحفاظ على توازن مغلف وكاذب للميزانية، وبالتأكيد فإن نفقات تسديد هذه الديون بدأت تتراكم بشكل تدريجي سنتي 2010 و2011، لتصل سنة 2012 لمستوى قياسي أرهق المالية العمومية ووصل إلى أزيد من 43 مليار درهم، وينتظر أن يصل أيضا سنة 2013 إلى حوالي 40 مليار درهم.
لكن بالمقابل يمكن القول بأن الحكومة قد فشلت في ترشيد النفقات الاستهلاكية خلال سنة 2012، وهو الأمر الذي كان من بين أهدافها الأساسية، وهذا الإجراء كان بإمكانه وحده توفير ما بين 8 إلى 12 مليار درهم سنويا، لكننا وجدنا أن هذه النفقات قد تصاعدت سنة 2012 بحوالي 19% وهو أمر غير مقبول وأدى من جهته إلى تفاقم عجز الميزانية.
ورغم أن ترشيد الإنفاق إجراء غير كافي لاستعادة التوازن للميزانية العامة، إلا أنه يعتبر أولوية قبل المرور لتوقيف أو تجميد جزء من نفقات الاستثمار التي تعتبر ذات حساسية بالغة من الناحية السياسية والاقتصادية والمالية.
لذا فإن العجز الموروث عن سنوات التدبير بين 2008 و2011 كان حاسما على مستوى إغراق مالية الدولة بالديون الداخلية والخارجية، مما رفع نفقات الدين الواجب أداؤها من 6 ملايير درهم سنة 2007 إلى أزيد من 55 مليار درهم سنة2012، مما أرهق الميزانية العامة وعمق من اختلال توازنها.
كما أن نفقات المقاصة قفزت من 12 مليار درهم سنة 2006إلى أزيد من 50 مليار درهم سنة 2011، ونفقات الموظفين بدورها فاقت 95 مليار درهم سنة 2012 بعدما كانت في حدود 77 مليار درهم سنة 2007.
وأمام هذا الإرث الثقيل والكارثي على مستوى النفقات والتكاليف العمومية لم يعد للحكومة الحالية هامش كبير للمعالجة، وبقي لها فقط محاولة امتصاص العجز المالي المتفاقم بشكل تدريجي يستحضر الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية للحكومة ويحمي توازنات الاقتصاد والمالية العمومية على المستوى المتوسط والطويل.
** متخصص في المالية العامة

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.