رحموني يتساءل: من يجرؤ على الكلام

إعلان تشاؤم مشروع للفكر ، مع الابقاء على تفاؤل الإرادة


تستبد بالصحافة الوطنية السيارة ، الحزبية منها والمستقلة العمومية كما الخاصة على حد سواء، منذ بضعة أسابيع، وبشكل بارز نبرة تشاؤم لا يمكن أن تخطئها حاسة القارئ النبيه والمتابع النهم للافتتاحيات والمقالات الرئيسية والمواكبات والمعالجات التحليلية لأوضاعنا السياسية العامة بالبلاد مند مدة ليست بالقصيرة .

نبرة التشاؤم هاته التي تعلو نبرة الخطاب السياسي والاعلامي ليست بالطبع وليدة الأسابيع والأيام الماضية على وجه التعيين والحصر ، فلقد كانت موجودة في الحقيقة، تعتمل داخل المشهد العام و تضبط إيقاع الكتابة الصحفية منذ شهور مديدة ، منذ أن تبين بالملموس وبلا مواربة أن جملة من مؤسساتنا السياسية والدستورية ومرافقنا العامة اختارت العودة إلى سيرها الركيك والمعتاد على العهد السالف ، الروتيني والرتيب بعيدا عن أي إبداع أو إقدام أو إقناع، تاركة تفسير ما تقوم به، ضمن ما تبقى لها من صلاحيات واختصاصات، لبعض عناصر الشرائح العليا من التكنوقراطيات والنخب من البيروقراط ، قارئة الماكيتات، والرسوم البيانية والجداول الإحصائية على الطريقة التي يقرأ بها المستقبل في قعر فنجان ، بحسبانها أن مشكل المغرب تدبيري لا سياسي مؤسساتي ، وتختزل الأمر في الفعالية والانجاز بدلا من السلطة والتوزيع العادل لها وللثروة .

لكن هذه النبرة التشاؤمية، وجدت لها قوة دفع مضاعفة بعد مسلسل الانتخابات الجزئية الأخيرة ، وحركات الفرملة للمسار الديمقراطي الوليد حتى ببهلوانية مقرفة من قبل بعض من القافزين الى سدة التوجيه العام من ساسة المرحلة ، ومارافق كل هته المرحلة من ظواهر ارتدادية سالبة ، وما تمخض عنها من تداعيات توحي بتوطين نزعة نكوصية لاتزال ذيولها تتفاعل لحد الآن، فلقد أكدت هذه الانتخابات وأثارها السياسية الإحساس، لدى كل من لم يندمج بالكامل في المنظومة، أو في السيستيم (بلغة البنيويين) بأن الحاضر السياسي والمؤسساتي هو سلسلة متصلة ومتراصة من التراجعات قياسا الى الماضي القريب، وأن المستقبل قد يكون – يا للهول – أقسى وأسوأ من الحاضر، وأننا قد نكون أكلنا خبزنا الأبيض واستنفدناه منذ مدة، وأن علينا من الآن فصاعدا أن نروض الذوات – ذواتنا على تحمل المضرات لنستوعب الصدمات النكوصية تلك ، بل وحتى على تلقي الضربات وحسن استيعابها بل وامتصاصها .

فقد أكدت هذه التطورات اللاحقة الإحساس العام، خاصة على ضوء ما عرفه مسلسل التحالفات السياسية من تعاقدات مريبة عند تشكيل الحكومة وسيرورتها ، أن ميزان الضوابط والمعايير انكسر وتبعثر شظايا وبأننا صرنا مهددين بعد اليوم بالسير دون بوصلة تحدد الاتجاهات الأربعة، وتساعد على توضيح الهدف والأفق لنعرف حقا إلى أين نحن قاصدون وفي أي متجه نحن ماضون وسائرون .

وهكذا، فالصورة التي يقدمها البلد اليوم عن نفسه، هي صورة بلد يستيقظ فيه الناس في الصباح، يذهبون إلى عملهم أو تجارتهم أو مكاتبهم، لا تبدو عليهم أمارات الشعور أو الاقتناع بأنهم يمارسون عملا أو يضطلعون بمجهود يدخل بوعي ضمن بناء مشروع جماعي عام يحركه حلم الانتقال الى مصاف الدول العابرة لبؤسها المستطير والفاقدة لبوصلتها التنموية والنهضوية ، ثم يعودون في المساء متعبين، باحثين بأي وجه عن تلهية أو تسلية يجدها قسم كبير منهم في مسلسلات تلفزيونية عربية وأجنبية، رومانسية أو عنيفة، وبين الصباح والمساء تستمر الوصلات الإشهارية للأبناك ومؤسسات الائتمان والقرض، تنادي على عباد الله الموظفين أن استدينوا استدينوا من أجل كل شيء ، من أجل مواجهة التكاليف الإضافية لهته الشهور العجاف ، من أجل العطلة الصيفية، من أجل مصاريف الدخول المدرسي، وحتى من أجل جمع ديونكم المتعددة في قرض واحد يقيكم قساوة الشعور الذي لابد أن يولده تعدد الديون الاستهلاكية .

الصورة التي يقدمها البلد عن نفسه هي صورة بلد يتكاثر في مدنه الكبرى والمتوسطة عدد السيارات، ومعها يتكاثر عدد الفقراء والمهمشين والمعوزين ممن لا أمل لهم في حراك اجتماعي في مستقبل منظور – صورة بلد يصر فيه المسؤولون الكبار، من ذوي القرار النافذ غير المحاسبين ولا الخاضعين لمنطق الاختيار الشعبي الاقتراعي ، أن لا تتعدى تعاليم المشروع الحداثي الديمقراطي الذي يبشرون به عتبة الطلاء الخفيف والعابر، السريع الذوبان، وذلك خوفا من تبعاتها السياسية والثقافية العميقة، وحفاظا على مصالح متراكمة مكتسبة من غير جهد انتاجي، يدرك أولئك المسؤولون أن التقليدانية كثقافة ونهج سياسي وتدبيري وحدها تضمن استمراريتها بكل الاطمئنان المطلوب لهم ولكتلهم التي تتبادل بينها المنافع بمنطق الغنيمة وبناء النفوذ والجاه .

من يجرأ اليوم على الكلام الصريح والجريئ ، أو حتى يقوى على رسم صورة مشرقة وردية، أو على الأقل إيجابية لواقعنا في الحاضر واحتمالات تطوره الأكيد في المستقبل ؟
من يجرؤ اليوم أو يقوى على الادعاء بأن هذا الواقع يرسل إشارات تحمل ومضات أمل أو لمسات استبشار؟
وهذا أو هؤلاء الذين قد يقوون على ذلك ويجرؤون، من أصحاب الرأي وقادة المرحلة من المبشرين الجدد ، هل يستطيعون حقا، حينما يأوون إلى فرشهم ويضعون رؤوسهم فوق الوسائد، مستعرضين شريط الأحداث والظواهر التي صادفوها خلال اليوم – هل يستطيعون إقناع حتى ذواتهم، في تلك اللحظات التي لا يعود فيها من سلطة على العقول إلا ما تؤمن به وتقتنع ، بأن ما ينشرونه بين الناس من غبطة مصطنعة ووعي زائف على الملأ من حولهم هو ترجمة أمينة لأحاسيسهم الحقيقية؟
لعل أبرز صورة أو تعبير عن هذا التناقض الذي قد يستشعره من ينشر الغبطة المصطنعة والضباب المستطير والغيوم الملبدة والوعي الزائغ والزائف من حوله خلال ساعات النهار، ثم يعود يراجعها في لحظة السكون مع الذات في صمت الليل، هو ما يطلق عليه السوسيولوجيون الأنجلوساكسونيون ب «أكاذيب عامة وحقيقة خاصة» .

أمام ما نشاهده ونرقبه يوما بيوم من رداءة وسقوط وانحطاط في الأداء العام، في مشهدنا السياسي البئيس وحياتنا العامة الشاردة والجانحة والعامرة بكائنات غرائبية واطئة رخوة وهزلية ، من يجرؤ أو يقوى اليوم على القول بأننا لازلنا نمثل أحد النماذج المنبثقة للديموقراطيات في بلدان العالم النامي بالشكل الذي كنا نوصف أو نصنف به إلي عهد قريب ، بل ذهب الحلم بالبعض إلى درجة تصنيعنا كمثال وتذكيرنا بأننا حقا استثناء ، إلى حدود بضع سنوات مضت حينما كانت وفودنا إلى المؤتمرات والتظاهرات العالمية الحزبية السياسية والديبلوماسية تشعر بالفخر والاعتزاز، وهي ترى مختلف الوفود الأجنبية تدنو منها راغبة في الحوار مستفسرة طارحة أسئلة، ومعبرة عن إعجابها بذاك الذي حققه بلدنا على صعيد الانتقال السياسي السلس والهادئ ، مأخوذة بوقع أصداء تلك النقلة النوعية التي كنا قد حققناها وأصبحنا بموجبها بؤرة اهتمام كل القوى الديموقراطية من حولنا في بلدان العالم النامي – من يجرؤ أو يقوى على ذلك اليوم حيث الركاكة عنوان وإطار وعملة رثة ورديئة في عالم السياسة تطارد العملة الأصيلة والنابعة من رحم الشعب ؟
خالد رحموني

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.